د.عبدالله بن موسى الطاير
عام 1995م ضرب بريطانيا صيف جاف، انخفض معه مستوى الماء في الأنهار، وانخفض الخزن الإستراتيجي من المياه لدرجة توزيع خزانات مؤقتة في بعض الأحياء في مدينة ليدز، بمنطقة يوركشير. يتجدّد العهد هذا العام بدرجات الحرارة غير المسبوقة في ارتفاعها، وفي الجفاف الذي تسبب فيه عدم نزول المطر لأسابيع. استمتع البعض بالصيف النادر وتشمسوا، وغيروا ألوان بشرتهم، وراجت سوق المراوح لدرجة أنني طفت المحلات فلم أجد مروحة واحدة في الأسواق. استعدت المتاجر للصيف الذي يليه، وتكدست المراوح والمكيفات في محلاتها فقد كان صيفًا باردًا ماطرًا، احتجبت فيه الشمس خلف السحب الكثيفة سوى بضعة أيام في الصيف كله.
سينسى البريطانيون والأوربيون صيف هذا العام وجفافه، وتعود الحياة لسياقها الطبيعي على الرغم من تجار المناخ وسماسرة البيئة الذين سيصبون اللعنات على الوقود الأحفوري وسيتفننون في إثقال برميل النفط بالضرائب والغرامات حتى يأتي الشتاء الموعود.
جيلي وبخاصة القروي منه لا تصدمه مناظر الجفاف، فقد كنا في القرى نعيش حالات الجفاف ونسميها «سنة» بفتح السين والنون. ولأن اعتماد الناس في أكلهم على ما يزرعون ويربون من ماشية، فقد كنا نشعر بالفرق الكبير عندما تموت الأغنام من العطش، وتيبس الأشجار، ولم يكن من صديق في وقت الجاف سوى شجرة «الغلف» التي تبقى خضراء، وكان يأكل البشر ورقها مشوياً، والحيوان يأكل السلع، ولذلك فضلوع الأطفال التي تُعدّ عن بعد من شدة الجوع ليست منظراً مستغرباً على ذاكرتي، والطوابير الطويلة على المياه من أجل ملء قربة أو تنكة من الماء غير الصالح للاستهلاك الآدمي ليس تجربة تجعلني أقف أمامها مندهشاً.
أذكر ذات يوم أنني أصررت على والدي -رحمه الله - أن يسمح لي بمرافقة صديق طفولة لجلب الماء، وركب كل منا حماره فوق «الزفة» وهي عبارة عن تنكتين سعة كل منها عشرون لتراً تقريباً، وقصدنا أول بئر فوجدناها قد جفت والناس حولها تنتظرها «تجم» أي تتجمع مياهها من جديدة، فتركناها لأهل قريتها وانتقلنا لبئر في سفح الجبل، فوجدناها جافة، وانتقلنا للبئر الثالثة فوجدنا فيها بعض الماء الذي كفانا الثلاثة لنعود إلى بيوتنا بعد صلاة المغرب، وكنا غادرناها صلاة العصر. كان ذلك شيئاً معتاداً، كما كان الشتاء القارس في أوربا طبيعيا بدون وسائل التدفئة الحديثة، حيث يلجأ الناس للحطب والتجمع في غرفة واحدة للاتقاء بدفء أجسامهم زمهرير الشتاء القارس.
بريطانيا وأوروبا عموماً تعتمد على المياه السطحية التي تتولّد من الأمطار والثلوج وتجري بها الأودية والأنهار، ولا تعتمد على المياه الجوفية ولا تحلية المياه المالحة. وبناها التحتية تتحمَّل أقسى درجات البرودة، لكنها لا تتحمَّل الحرارة والجفاف. لكني أخشى أن يترحم الأوربيون على الصيف وجفافه وشمسه الحارقة عندما تبدأ رياح الشمال عصفها الموسمي يقابلها شح في موارد الطاقة وبخاصة الغاز الروسي الذي سيكون بطل الشتاء القادم.
وعلى الرغم من أن الإنسان ابن بيئته يتأقلم مع الأجواء، إلا أن طبيعة الحياة المرفّهة قد تركت بصماتها على تكوينات الناس الجسمانية ومدى تحمّلهم تجربة الظروف القاسية مرة أخرى، وهو ما يجعل الشعوب الأوربية تعيش حالة هلع من شتاء قادم بدون الغاز الروسي. الولايات المتحدة الأمريكية وكندا لن تعانيا من شتاء مرتقب، غير أن نحو 28 بلدًا أوروبياً تعيش خوفاً حقيقياً من القادم، فقد خططت لاستثمار الصيف لملء مستودعاتها من الغاز بنسبة تصل إلى 80 %، لكنها لم تنجح في تحقيق هذا الرقم ولم تقترب منه بسبب انقطاعات الإمدادات نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية.
لا أحد يتخيل الشتاء بدون تدفئة؛ للبيوت والمدارس والجامعات والمشافي ووسائل النقل، ومع ذلك فإن أوربا مهددة بتغيير جوهري في طريقة تعاملها مع الشتاء. وإذا جاع الناس وبردوا فإن توقع ردود الأفعال لا يمكن التنبؤ بها على مستوى السياسة والمجتمع.