محمد سليمان العنقري
قصة تداعيات جائحة فايروس كورونا لم تنتهِ باكتشاف اللقاحات المضادة له، فمن الآثار الصحية التي خلفها من إصابات ووفيات وسيطرة المخاوف على كل فرد بالعالم إلى تداعيات كارثية اقتصادياً طالت الجميع دون استثناء وما زالت مستمرة حتى بعد مرور أكثر من عامين على تفشي هذا الوباء. فعالم ما بعد كورونا ليس كما قبلها، فقد أًجبر العالم على تطبيق أكبر إقفال اجتماعي بالتاريخ نتج عنه ركود اقتصادي بلغت تكلفة احتوائه أكثر من 30 تريليون دولار، إلا أن التخلص من آثاره ما زال قائماً ولا يبدو أنه سينتهي بوقت قصير، بل إنه بسبب هذه التداعيات انتقل العالم لفتح ملفات سياسية كانت خاملة وتفحرت مواجهات عسكرية بسببها، فلا يمكن الفصل بين ما تسببت به هذه الجائحة وما يعيشه العالم من فوضى لا أحد يعرف كيف ومتى ستنتهي.
فما التضخم الذي اشتعل بالعالم إلا بسبب الإقفالات والنقص الكبير بسلاسل الإمداد الذي ارتفعت بسببه أسعار السلع والخدمات والشحن، كما أن هذه الإقفالات تسببت بنقص كبير في العمالة المطلوبة لفك الاختناقات بالطلب الذي بدا عقب حزم التحفيز للخروج من تداعيات الجائحة، إضافة لما أظهرته من نقص هائل في صناعة المستلزمات الطبية، وكذلك ضعف التعاون الدولي في مواجهة تفشي الفايروس، بل قامت بعض الدول بمصادرة شحنات تجهيزات طبية كانت تعبر مطاراتها لدول أخرى كما حدث ببعض دول أوروبا في بداية الأزمة، إضافة لما كشفت عنه الجائحة من فقر شديد بالرعاية الصحية والتجهيزات اللازمة لها بالدول الفقيرة وأظهر معه الفجوات الكبرى بين دول العالم الغني والفقير، رغم أن انتشار الفايروس بالدول الفقيرة له أضرار تطال العالم أجمع، نتيجة سهولة العدوى به وانتقاله السريع عالمياً، لكن أخطر تداعيات كورونا هي تفجيرها لملفات سياسية أدت لوقوع حروب كما هو الحال بين روسيا وأوكرانيا، إذ يرى الخبراء الغربيون أن تراجع اقتصاد دول أوروبا وأميركا وتركيزهم على احتواء الركود والعودة للنمو، وما لحق بهم من ضغوط تضخمية، وكذلك ارتفاع بالدين السيادي قد يكون هو ما شجع روسيا على غزو أوكرانيا بهذا التوقيت الذي يرون أن موسكو وضعت تقديرات بأن الغرب لن يكون له أي قدرة على الرد عسكريًا، وأن العقوبات التي ستفرض عليها ستكون أقل تكلفة من بقاء أمن روسيا القومي مهددًا من اقتراب حلف الناتو لحدودهم من جهة أوكرانيا، وبذلك فإن لما خلفته جائحة كورونا من تداعيات دور في اشتعال هذه الحرب التي لا أفق واضح لنهايتها وساهمت برفع التضخم وظهور مخاوف بدرجة عالية من حدوث مجاعة في دول فقيرة، وقد تطال أكثر من 50 مليون إنسان بسبب نقص صادرات السلع الغذائية الرئيسية من روسيا وأوكرانيا كالقمح والحبوب عموماً.
فمع استمرار بقاء هذا الفايروس وتوقع حدوث تحورات فيه مستقبلاً وبما أن منظمة الصحة العالمية لم تخفض درجة خطورته فما زال يصنف كجائحة، فإن بقاء آثاره الاقتصادية من نقص بالسلع وتعطل لسلاسل الإمداد سيبقى مؤرقاً للبنوك المركزية بالعالم المطالبة باتخاذ إجراءات لكبح التضخم، فالمشكلة هي بتحقيق معادلة بغاية الصعوبة، وهي أن تكبح التضخم برفع أسعار الفائدة وبالوقت نفسه تحافظ على معدل نمو اقتصادي مقبول وعدم العودة للركود، لكن استمرار هذه الجائحة واتخاذ بعض الدول المهمة في سوق الصناعة العالمي لقرارات إقفال لبعض مدنها يؤدي دائماً لتراجع في العرض من السلع قياساً بالطلب، وبذلك تصبح خطوات البنوك المركزية ذات تأثير منقوص عن ما هو مأمول منها خصوصًا إذا استمرت الحرب الروسية على أوكرانيا أو ازداد التصعيد بين الصين وتايوان من خلال الاستفزاز الغربي والأميريكي تحديداً لبكين عبر الزيارات البرلمانية التي يقومون بها لتايبيه في توقيت يحمل معه الكثير من التساؤلات عن أيعاده وإلى أين يريدون الوصول من احتمال إشعال حرب أخرى بالعالم مما سيؤدي لانهيار اقتصادي عالمي بكل تأكيد إذا توسعت الردود بين الطرفين ووصلت لحافة الحرب النووية، كما عبر عن ذلك أمين عام الأمم المتحدة.
كورونا لم يكن مجرد فايروس ترك أثراً على الصحة العامة أو الاقتصاد بل إن تداعياته انتقلت لمربعات خطرة واشعلت المواجهات بين المتنافسين على زعامة العالم فكل طرف يحاول استغلال أثر تداعيات فايروس كورونا على الآخر لتحقيق مكاسب تعزز من دوره بقيادة العالم وتوسع من دائرة استفادته ونفوذه، فهذه الخلافات كانت جاهزة لتنفجر إلا أنها فقط انتظرت أول فرصة تسمح بتحريكها والانتقال لتنفيذ ما تخططه كل قوة طرف بهذا النزاع الدولي.