أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قرَّر الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى في كتابه المُحلَّى 8/ 126 أن الكفارات في القرآن والسنة تنقسم أربعة أقسام: «أحدها كفارة عبادة بغير ذنب أصلاً.. قال تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} (سورة المائدة/ 89)، وقد يكون الحنث أفضل من التمادي على اليمين.. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لا أَحْلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وكفَّرت».. أو كما قال عليه الصلاة والسلام؛ فقد نصَّ عليه الصلاة والسلام على أن الحنث وفيه الكفارة قد يكون خيراً من الوفاء باليمين.. والثاني كفارة بلا ذنب باق، لكن لذنبٍ قد تقدم غفران الله تعالى له كالحدِّ يقام على التائب من الزنى.. والثالث كفارة لذنب لم يتب منه صاحبه؛ فترفعه الكفارة كحد الزاني والسارق اللذين لم يتوبا.. والرابع كفارة على ذنب لم يتب منه صاحبه، ولا رفعته الكفارة، ولا حطَّته كالعائد على قتل الصيد في الحرم عمداً مرة بعد مرة.. قال تعالى: {فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ} (سورة المائدة/ 95)؛ فهذه نقمة متوعد بها مع وجوب الكفارة عليه».
قال أبو عبدالرحمن: غيرُ مُسَلَّمٍ للإمام ابن حزم قدَّس الله روحه ونوَّر ضريحه أن الكفارة الأولى عن غير ذنب أصلاً!!.. بل الكفارة إن لم تكن عن مُخالفة عن خطأ أو عمْد فتسميتها كفَّارة خطأٌ؛ لأنها (ماحيةٌ)؛ فإذا لم يُوجد ذنبٌ تمحوه فكيف تكون كفارة؟!.. إن الحلف بالله عبادة، وهو تعظيم للرب جل جلاله، والمسلم مضطرٌّ إلى الحلف بربه في ردِّ دعوى عليه كاذبة لَزِمَتْه قضاء، وهو مضطرٌّ إليه في تأكيد حقيقة يشكِّك فيها المعانِد.. ولكن الذنب أن يكون ما أقسمت عليه غير صحيح وأنت غير قاصد، وأما التعمد فذنب عظيم لا تكفي فيه كفارة الحَلْفِ الكاذب عمداً؛ فكفارته قبل ذلك توبة نصوح بشروطها؛ للاستهانة بحق الرب جل جلاله.. وأما الحنث عن غير تعمُّدِ يمينٍ كاذبة فهو ذنب؛ لأن الدفع أو التأكيد لشيء غير صحيح، أو أن يكون ما أُقسم عليه بربنا غير صحيح: هو ذنب بلا ريب، ولكنه لما كان عن غير قصد، وكان اسم الله مُنزَّهاً أن يرِدَ على شيء غير صحيح: رحمنا ربنا بثنتين: أولاهما أن تكون الكفارة تقديس ربنا؛ إذ وقع اليمين على غير صحيح بغير عمدٍ منا، وأخراهما أن الكفارة نفسَها مبيحةٌ لنا الحنِثَ عمداً إذا رأينا غير ما أقسمنا عليه خيراً منه؛ فما أكرم ربنا وأرحمه جل جلاله!!.. وغير مُسلَّم لأبي محمد القسم الثاني؛ لأن الحدَّ عقوبة شرعية يستجد بها غفران أكثر للذنب، ويحصل بها زيادة أجر؛ لأن المغفرة قبل الحدِّ أسقطت الوِزْر، والحدَّ أوجب الأجر.. ومغفرةُ الله تكون بإبطال الوزر، وتكون بزيادة الأجر، وتكون بإبدال السيئة حسنة؛ فالمغفرتان الأخيرتان مضاعفةٌ للمغفرة الأولى.. والقسم الثالث مشروطة المغفرة فيه بتجديد التوبة بالرِّضا بالحدِّ الذي شرعه الله.. والقسم الرابع الذي ذكره أبو محمد ليس فيه حجبُ المغفرة والتوبة مرة بعد مرة؛ وإنما فيه مع أمثاله من نصوص الوعيد التحذير من انتقام الله على غير توبة نصوح، والله يُحقِّق وعده بلا محالة عدلاً منه ورحمة وصدقاً، وقد لا يحقِّق وعيده رحمة منه، ولا خُلْف في ذلك؛ فعباد الله تحت مشيئته في الدنيا، وهم في الآخرة بعد انقضاء آجالهم إذا ماتوا غير كفار ولا مشركين تحت مشيئته إن شاء عذَّب بعدله، وإن شاء عفا برحمته، ولا تعارض بين خبره بالوعيد، وخبره بالمشيئة؛ فمُطْلَق الوعيد محمولٌ على مُقَيَّدِ المشيئة، وإلى لقاءٍ قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.