رمضان جريدي العنزي
يافع سجين، يقبع في السجن منذ بضع سنين، في صدره عشرون تنهيدة، وفي روحه أسى عتيق، منكسر كزجاجة، أو كسحابة وحيدة، أو كنورس يطوف خلف حقول الغروب، أو كفراشة حول حواف اللهيب، مسكون بالهم، ويحاول أن يبصر ما رواء الضباب، له وجع يصطليه، وما عنده بلاغة، يحاول أن يقول كالمتنبي أو كجرير، أو مثل ما قال الجواهري والسياب، أو الهزاني، أو ابن لعبون، يحاول أن يقول، لكي يركض في سجنه في سهوب الحياة، بحثاً عن سناء، عن سحابة، عن عطر يتناثر من شفاه الأقحوان، عن غيمة، عن أرض رعوية خضراء، عن قصيدة مرجانية، عن بهاء، عن ماء مصفى، عن سراب، توضأ بالحزن حتى الانكسار وما عنده سند، ولا عنده معين، وليس عنده مال، أو لديه وجاهة، وما عنده ديباج ولا حرير، سوى الدموع التي تسقط في المحاجر، مثقلاً بالخسارة، ومتوجاً بالمرارة، يلوي على العمر الذي ضاع من خلف قضبان الحديد، عيناه أصبحتا مثل فحم من أثر المواجع، يبصران النهار من غير لون، مثل نورس جريح، يبحث عن بحر يلوذ به، تتوزع روحه كما يتوزع سرب القطا حول غدير الماء، يجول في غرفة السجن كأنه ذئب، لكنه بالرماد مزهر، الصباح الذي يملأ قلبه زهواً ما عاد صباحًا، والمساء الندي ما عاد عنده مساء، يطوف في عتمة الذاكرة، بقنديل عينيه، عن أمه الواهنة، وأخاه المعاق، بكاؤه مر يندي الجراح القديمة، وقلبه مثخن بالتعب، ووجهه من سنين السجن شحب، ما عاد وجهه مزهرًا، ولا فيه بريق، يطل من النافذة ليرى بعض الغيوم تعبر نحو الفضاء البعيد، ليملأ روحه بأحلامه الراكدة، مثل فراشة تطوف حول زهرة التوت الأنيقة، يحاول أن يرقى بروحه مثل سحابة، متعب هو يبحث عن سعادة، وعن ضوء يأتيه من فجوج العتامة، يبحث عن هواء، عن ماء، عن حياة جديدة، عن ضباب فيه رذاذة، يغمض عينيه على حلم هلامي، عن شمس، عن فراش وثير ومخمل، عن عطر، عن صوت حداء، ولحن ربابة، عن عوسج يستظل بظله، عن ساقية ماء، ينازعه الحنين إلى الذي كان، عن طفولته، عن صباه، عن الحمام، عن شجرة زرعها تنظر كي يجيء المطر، عن شبابه الناضخ بالحلم وكيف انكسر، عن بياض الرخام، وكيف كان ينام كالطفل حين ينام، هو الآن يعيش الأمل، نائماً في سريره مثل ناطحات السحاب، ينتظر الشتاء وراء الشتاء لكي يخرج، أو ربما قبل حلول الشتاء، هكذا يمني نفسه وفق نصوص جميلة، ويسليها مثل الطيور الحبيسة، يسير خلف ثقوب الأماني، ويذوب خلف الحلم، وقلبه تكور نصفين، نصف لموج الحلم، ونصف للقمحالذي ربما يجيء حصاده، ويقعد مع حلمه حين الشفق في مساء الحبق والترانيم الحزينة، يداوي انكساراته بالأمل، لهذا يحب الحياة الذي تقطر ماؤها في دمه، ينهض كل صباح على صوت المركبات العابرة، ليستيقن بأن الحياة تنبض بالحياة، عندها يشع وجهه بالضياء، وتسكن روحه، بعد أن ترمد قلبه بالكمد، وعيناه بالرماد، ليضحك عندها ثغره، ويخضر عشبه، وتكبر عنده سنين الربيع.