د. عبدالحق عزوزي
أضحت رؤية المستقبل اليوم صعبة جدًا وتحديد معالمها أصعب مما يمكن تصوره؛ والعالم أصبح أكثر ضبابية؛ والسؤال المطروح هو مدى تأثر العالم العربي بالتحولات العالمية قبل أن يتأثر هو نفسه بالتحولات العربية نفسها؟ المشكل في العالم العربي هو أنه يقع في منطقة حساسة جدًا، أي على موقع نقطة التقاء قارات ثلاث، وفي منطقة مرغوب فيها جدًا لأنها تتوفر على مخزون هائل من النفط متوفر تحت صحرائها وبمنطقة جغرافية حساسة؛ فاجتماع هاته العوامل جعلت المنطقة العربية في جوهر الشأن الدولي أو الإستراتيجية الدولية؛ والمشكل الآخر هو أن المنطقة العربية رغم هاته العوامل المحددة لتموقعها داخل النظام الدولي هي لاعب غير قوي بسبب غياب الوحدة والقوة والمناعة بما يسمح لها بمجاراة التكتلات الجهوية والإقليمية والدولية؛ ثم المشكل الثالث هو غياب التنمية الحقيقية في العديد من دولها.
ومن تتبع جل توصيات الملتقيات العربية الأخيرة التي تتناول أوجه خروج منطقتنا مما هي عليه اليوم، إلى مدارج الكمال في المسائل الاقتصادية والأمنية والاجتماعية، سيرى أنها تدعو إلى ضرورة إصلاح بعض مظاهر الخلل الهيكلي في بعض الاقتصادات من خلال تخفيض النفقات وقيام دولها بوضع خطط اقتصادية شاملة قصيرة الأجل وطويلة الأجل، بهدف توجيه اقتصاداتها إلى أنشطة تساعد على تنويع مصادر دخلها القومي وتعددها والإسراع في جهود التنمية المستدامة.. والعمل على زيادة الاهتمام بإنتاج المعرفة من خلال تهيئة البيئتين التشريعية والاقتصادية الملائمتين بما يؤدي إلى توفير الظروف المناسبة لهذا العنصر المهم الذي يمكن أن يوفر مصدرًا آخر من مصادر الدخل في دول «مجلس التعاون لدول الخليج العربية».
كما أن العديد من هاته التوصيات تتوقف عند ضرورة الاستثمار في العامل البشري، فبدونه تضيع مصالح الشعوب والأجيال. فدول كالهند واليابان وكوريا الجنوبية التي لا تملك أي موارد طبيعية استثمرت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية في المورد البشري فأصبحت دولاً متقدمة وأصبح البحث العلمي فيها متطورًا وغذت دولاً يضرب بها المثل... فمن مسؤولية الجميع اليوم في الوطن العربي الاستثمار في العقول والإقدام على اتخاذ قرارات شجاعة لتحقيق الملاءمة بين التكوين العلمي والمهني والتقني وبين مستلزمات الاقتصاد العصري، وتشجيع البحث العلمي والابتكار، والانخراط في اقتصاد ومجتمع المعرفة والاتصال، وإعطاء نفس جديد لنظام البحث العلمي والتقني في الوطن العربي من خلال تبني إستراتيجية كفيلة بتأهيل البحث العلمي والتقني الوطني، وجعله في خدمة التنمية.
وللأسف يتهاتف المتهافتون اليوم في بعض الأوطان العربية على مشكلات تكون الشعوب في غنى عنها وبالأخص إذا كانت ذات لون ديني أو إيديولوجي مدو وينسون أو يتناسون الأولويات التي يجب تناولها بدل الخوض في مشكلات تحرك المشاعر والوجدان ويكون لتحريكها خطر على المجتمع، وتكون طامة كبرى ومصيبة أزفة وداهية عظمى ليس لها من دون الله كاشفة على مستقبل العباد والأوطان.
كل هاته التوصيات يمكن تلخيصها في ضرورة «القوة الذكية»... لقد نجحت الهند والعديد من المدن والجامعات الآسيوية في تطوير البحث العلمي والتكنولوجي ومكنتها من تحقيق المستحيل وبموارد قليلة جدًا مثل اليابان اللهم ما تعلق بالموارد البشرية وهو ما نملكه نحن العرب أيضًا...
ولا غرو أن دولاً مثل الهند أصبحت مجسدة لهاته القوة الذكية. فهاته القوة في القرن الحادي والعشرين لا يعني عدد الرؤوس النووية التي تتوافر عليها البلدة أو كيف تحافظ على السيطرة العسكرية بل يعني ذلك إيجاد طرائق للجمع بين الموارد في إستراتيجيات ناجحة في مجال التنمية والابتكار...
الهند لها ساكنة كبيرة جدًا: أزيد من مليار ومائتي مليون نسمة. وكل المؤشرات توحي بأن هاته البلدة بدأت تدخل نادي الدول الكبار في المجالات الاقتصادية والبحثية والابتكارية دون نسيان المجالات العسكرية المتعددة. كما أن بعض المحللين الاقتصاديين يكتبون بأن الهند يمكن أن تحتل اقتصاديًا الرتبة الثالثة عالميًا في حدود 2030 نظرًا للتطور الهائل الذي يشهده القطاع الخاص الهندي.
إن تنمية المهارات والعلم والبحث والتنمية والابتكار هي المفتاح الذي يسمح لدولنا العربية، بفرص ربح معركة التنافسية، وبالتالي معركة العولمة. ويتطلب التحدي من هذا النوع اعتماد نظام تعليمي قوي وذي جودة، كما يتطلب رؤية واضحة في مجال التنمية التكنولوجية، وهذا هو الأساس لتحقيق هاته القوة الذكية.