تعلم الّلغات من أبرز المواهب والقدرات الفردية التي يتميز بها النابغون والنابهون من الناس، ويحرص عليها العلماء والمثقفون؛ لأنها تفتح لهم آفاقاً من المعرفة والعلم لم يكونوا قادرين على بلوغها، لولا إلمامهم بلغات أخرى... ويحفظ لنا التاريخ والحاضر أسماء رجال وعلماء أجادوا لغات عديدة فاستفادوا، وأفادوا ... ومع أن الكدّ والجهد العلمي لإدراك هذه الموهبة أضحى أقل في عصر الذكاء الصناعي والترجمة الآلية، إلا أن الجانب الذي نتحدّث عنه هنا ليس إتقان اللغة من الناحية اللغوية المحضة، بل من الناحية الفكرية والاجتماعية المتعلقة بالمجتمع والوعي بالذات.
وفي حياتي العملية قابلت وعرفت أساتذةً وعلماء كان بعضهم يتحدث ويجيد حوالي عشر لغات. وكانوا سعداء بذلك! ويحدثنا التاريخ عن أناس من العرب أجادوا مثل ذلك، وأنتجوا إنتاجاً علمياً رائعاً بلغتهم العربية واستفادوا من حمولة اللغات الأخرى علمياً وثقافياً.. ولكن الشخصية الثقافية كانت للغة العربية
وفي مجتمعنا كثيرٌ من الآباء والأمّهات الذين يسعون جادين ليتعلّم أبناؤهم لغاتٍ أخرى، وهذا حسنٌ. وقد يبدؤون الحديث مع أبنائهم بلغة أخرى، وبخاصة الإنجليزية ويحرصون عليها حرصاً كبيراً بسبب المستقبل التعليمي والعمل وهذا جيد!
إنّ المسألة التي أودّ بيان جوانبها هنا هي أن اللغة ليست وسيلة للتعبير اليومي والتواصل والدرس العلمي فقط. اللغة هي الأداةُ التي تحمل المشاعر والثقافة، والتواصل والعلاقات الإنسانية، والانتماء الفكري، بل فهم العالم كلّه... وقد تحدث الفلاسفة عن أهمية اللغة حتى لقد قال بعضهم: إنه لا يمكن إدراك العالم وما فيه من موجوداتٍ ومعانٍ بلا لغةٍ؛ فاللغة هي الوجه المسموع ثم المكتوب للفكر.
وهذه القيمة المعرفية والشخصية اللغوية لدى أي إنسانٍ مرتبطة أكثر شيءٍ باللغة الأم. أما اللغات الأخرى التي يتعلمها الإنسانُ فتحمل قيمةً ثقافيةً، وتفتح مجالاً أوسع لفهم العالم والتواصل العلمي والحضاري، ولكنها تبقى وسيلة تواصلٍ وتعلُّمٍ، ولا تكون حمّالة للهوية الثقافية والشخصية اللغوية للإنسان الذي يتعلمها أو يتحدث بها أحياناً.
ويميل كثير من أساتذة علم اللغة الاجتماعي إلى القول إنه لا يكاد يوجد في العالم مكان يتسع للغتين على المستوى نفسه، أو شخص يتحدث بلغتين بالمستوى نفسه في جميع المهارات اللغوية النحوية والصرفية، والتواصلية، والثقافية. وهذا يعني أن هناك لغة ما تحتل المرتبة الأولى وأخرى الثانية أو الثالثة وهكذا. ومن النادر جداً أو الممتنع أن يوجد في بيئة واحدةٍ لغتان على مستوى واحد في منزلٍ واحدٍ أو مجتمعٍ واحدٍ أو دولةٍ واحدة. ولذلك فإن تربية طفلٍ ما على تعلم أكثر من لغة بمستوى صحيح، ليس بالأمر السهل، ويحتاج إلى جهدٍ كبيرٍ لتحقيق إدارةٍ خاصةٍ بهذا التنوع اللغوي. وهو ما يخفق فيه أكثر الآباء والأمهات.
إن الذي نراه اليوم قد حدث مع مجموعة من الأطفال أن الآباء والأمهات قد أضعفوا جانب الشخصية اللغوية لدى الطفل من خلال إضعاف اللغة العربية لديه، حتى إنها لم تعد لغةَ الشّعور والقيم ولغةَ التواصل الأولى، بل توارت لتصبح لغةً من الدرجة الثانية، بل الثالثة في بعض الحالات... وبعض هؤلاء الآباء والأمهات يفخرون بذلك لعدم إدراكهم لتأثير ذلك على الشخصية اللغوية للطفل، والتي تقوم عليها الهوية والبناء الفكري والشخصية الاجتماعية، وعدم درايتهم بالضرر التربوي والنفسي والتعليمي...
إن أمر اللغة أمرٌ خطيرٌ جداً أكثر مما يتصوره بعض الآباء والأمهات في مجتمعاتنا العربية. وأولئك الذين أهملوا لغتهم العربية لتكون لغة هامشية، حتى صار الطفل لا يفضل الحديث بها- إنما يفتحون الباب واسعاً لهذا الطفل ليغادر الهويّة العربية والانتماء الثقافي والديني مغادرة نهائيةً بعد سنوات قد تبدو لنا اليوم بعيدةً، ولكنها آتيةٌ، وسيغادر هذا الطفل منظومتنا السلوكية ثم الاجتماعية. وبعد تأسيسه التعليمي سيبحث هذا الفتى أو هذه الفتاة عن حياته العملية في فضاءات لغته الأولى التي يجيدها، والتي ليست العربية هنا في مثالنا هذا!
وهذا له نتائجُ خطيرةٌ. ويقوم علماء النفس والاجتماع بدراسة بعض المشكلات النفسية الواقعة على الأطفال بسبب ازدواجية اللغة العميقة. وإحدى هذه النتائج تأثر التعليم، والانزواء الاجتماعي في المجتمع، والنزوح نحو الجزر اللغوية الصغيرة في المجتمع التي يصنعها الأجانب، والبعد عن كبار السن والأقارب، ثم الإحساس بالاغتراب الروحي والثقافي... وإحدى هذه النتائج الوخيمة البعد عن مصادر الثقافة العربية والإسلامية فيُحرم الشاب منها ومن تذوقها والإحساس بمرجعيته الثقافية وهويته الثقافية والتاريخية...
الازدواجية اللغويةُ جديدةٌ في مجتمعنا؛ لأنه لا يوجد لدينا لغة أخرى على مستوى الثقافة والمجتمع والجهات الرسمية. وهذه ميزةٌ تعمل جميعُ الدول على تحقيقها. وهي موجودة بصورةٍ تامة في مجتمع تسع وعشرين دولةً فقط، بل لقد ارتكبت بعض الدول مآسي في الجانب الحقوقي والإنساني وخاضت حروباً لتحقيق هذه الوحدة اللغوية. وهي الوحدة التي نقوم نحن أحياناً بتفكيكها في العالم العربي بلا شعور، ولا إدراك عميق لميزاتها وفضائلها، بل إن المناهج الدراسية في أكثر الدول العربية تساعد على ذلك. والانشقاق اللغوي قد يحمل في طياته انشقاقاً سياسياً إذا جهلنا أبعاده ومساحاته، ولو بعد حين.
وملخص القول إن الازدواجية اللغوية نعمةٌ على مستوى الفرد، ولكن ليس على مستوى الدولة والمجتمع. وعلى مستوى الفرد هناك حدودٌ نفسية وثقافية تأسيسية هامةٌ يجب ألا نغفل عنها. وهذا البعد المزعج يذكرنا بما فعله الاستعمار باللغة العربية في كل الشعوب الإسلامية التي دخلها، ونجح من داخلها في دفع العربية لتصبح الثانية أو الثالثة، كما حدث في أرجاء من أفريقيا، أو نجح على الأقل في تغيير الخط كما حدث في تركيا، أو تغيير المناهج كما يحدث الآن في أكثر الدول العربية والإسلامية بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشرٍ بدعوى النمو الاقتصادي، أو التقدم التقني.
وقد يسأل سائلٌ ما للاستعمار وللغة؟ الجواب يكمن في تلك الحمولة الثقافية التي تحملها اللغة الأولى على النحو الذي ذكرته سابقاً، فلا هويّة لنا بلا لغتنا العربية! ومن يزعم خلاف ذلك فهو واهمٌ، وسيتحطم هذا الوهمُ الكبير لديه وسط محيط الواقع، وحينذاك قد يكون الشاطئ بعيداً للنجاة. ولا ينبئك مثل خبيرِ!
** **
- د. أحمد بن محمد الدبيان
arabic.philo@gmail.com