عادل علي جودة
بين يديَّ كتاب يمثِّل مطلبًا مُلحًا ليس فقط للعامة من الناس، بل أيضًا للمثقف كما للكاتب، والباحث، والروائي، والقاص، وكذلك للكثير من الشعراء، عنوان الكتاب «النجاح في النحو والصرف»، وهو لسادنة لسان الضاد؛ إنها الأديبة الأردنية الدكتورة نجاح السرطاوي، التي أدينُ لها بالشكر الجزيل، إذ تفضلت بإهدائي نسخة منه ليشكلَ إضافةً ثريةً لجناح الأدب في مكتبتي المتواضعة.
وَيَطيب لي هنا أن أضع بين يديك قارئي الكريم بعضًا من التمهيد الذي جاء استلالًا لهذا الكتاب القيم، والذي ركزت فيه الدكتورة نجاح على أمر يحكي خللًا بيِّنًا لدى الكثيرين من ذوي الاختصاص، وهو الهمزة.
تقول الدكتورة نجاح في إطار حديثها عن الكتابة: «هناك الكثير من الكتاب من يجد أن قواعد اللغة العربية صعبة عليه أثناء الكتابة، وقد لمست ذلك بنفسي من خلال قراءتي للنصوص وللتعليقات عليها، فمنهم من يهمل تشكيل بعض الكلمات في الجملة، وأتساءل عن سبب ذلك، وغالبًا ما يهملون المفعول به في الجملة الفعلية وكأنه ليس له وجود.»
وأستأذن الدكتورة نجاح بإشارة سريعة إلى أن البعضَ يخطئُ حتى في وضع تنوين الفتح؛ إذ بدلًا من وضعِهِ على الحرف الأخير من الاسم المنون بالفتح، يضعُهُ على الألف التابعة للتنوين، فمثلًا هكذا يُشكِّلُ البعضُ جملة (قرأتُ كتاباً)، بينما التشكيل الصحيح هكذا (قرأتُ كتابًا)، والأمر الأكثر غرابةً أن يكتبَها أحدهم هكذا (قرأتُ كتابَاً).
وتواصل الدكتورة نجاح تمهيدها بالقول: «لاحظت أيضًا عدم التمكن من كتابة الهمزات داخل الكلمة وعدم التمييز بين رسم الهمزة في حالة الرفع والنصب والجر، وهناك من الكتاب من لا يضع الهمزة أصلًا، وإذا حصل هذا الأمر فكيف لنا أن نميز بين بعض الكلمات المتشابهة في اللفظ والمختلفة في المعنى مثل (سَالَ: سَأَلَ) و(زَارَ: زَأَرَ)، ولكل منها معنى مختلف عن الأخرى، والفيصل في ذلك الهمزة؛ فكيف لنا أن نهملها؟ فالهمزة حرف من حروف اللغة العربية مثلها مثل أي حرف آخر، وأما «الـمَدّة» فتتكون من همزتين معًا».
ومن جهتي أضيف ههنا أنه لا مجال مطلقًا لتبرير إهمال الهمزة؛ إذ هنالك من يبرر إهماله لها بأنه يستخدم جهاز الجوال مشيرًا إلى أن الهمزة غير موجودة فيه، وهذا تبرير مرفوض تمامًا؛ فالهمزة موجودة في أجهزة الجوال بكافة أجيالها؛ الحديثة منها والقديمة مثل جهاز نوكيا وغيره، وهناك من يشير إلى عدم درايته بمواقع الهمزة في لوحة مفاتيح أجهزة الجوال، وهذا التبرير أيضًا مرفوض؛ إذ إن الوصول إلى الهمزة ليس بالأمر المستحيل أو الصعب؛ فبالضغط على مفتاح العالي (Shift) تصبح الهمزات أمامه.
وحول ما يحدث من خلط بسبب عدم وضع الـمَدّة على الألف الممدودة تقول الدكتورة نجاح: «قرأت أحد النصوص وقد كان الموضوع كله عن (المرأة)، وأثناء القراءة وجدت أن الكاتب لا يقصد الْمَرأة، بل يقصد (الْمِرآة) ...؛ لاحظوا كيف اختلف المعنى بين المرأة والمرآة؛ والسبب في ذلك إهمال وضع الـمَدة، وكذلك بين (قُرآن وقِران).
وفي محطة أخرى تقول الدكتورة نجاح: «ولكي تكون كتابة الكاتب والشاعر صحيحة في جميع الفنون الأدبية في اللغة العربية من شعر، وقصة، وخاطرة، ورواية، ومسرحية، وخطبة، وغيرها، يجب عليه أن يكون متمكنًا من قواعد النحو والصرف، وأن يكون مُلمًّا بها كي يستفيد أثناء كتاباته ويثريها دون أن يصاحبَ نصوصَه أي خطأ كان، كما أن هذا يكون مفيدًا له في تقوية شخصيته ومداركه أثناء الخوض مع الآخرين في موضوعاتٍ تخص اللغة العربية».
وفي هذا الإطار أقول:
الكتابةُ ليست مجردَ حروفٍ تشكّلُ كلمةً، ولا كلماتٍ تملأُ صفحة.
الكتابةُ ليستْ مجردَ ورقةٍ وقلم، ولا لوحةَ مفاتيحٍ أَدخلَت الكلَّ مِنصّاتِ التواصلِ الاجتماعي، فألبسته عباءاتٍ ليستْ له، ففي فضاء الفيسبوك (مثلًا) بات الكل كاتبًا، والكل قاضيًا، والكل شاعرًا، والكل طبيبًا، ولِمَ لا؛ بات الكل عالِـمًا ممسكًا بنواصي العلوم كلِّها، والحقيقة أن هذا الكلَّ من كلِّ ذلك براء.
الكتابةُ ليستْ كذلك، إنما الكتابةُ هَمٌّ يرسل فكرةً، وفكرةٌ تصنعُ بصمةً، وبصمةٌ تحملُ رسالةً.
الكتابةُ مَلَكٌ يخطفُكَ من وقتِكَ، يخطفُكَ من أهلِكَ، يخطفُكَ من كلِّ شأنِك.
الكتابةُ عشقٌ ذو سلطةٍ مُحبّبةٍ إلى نفسِك؛ عشقٌ يأسرُ إحساسَكَ، ويحبسُ أنفاسَكَ، ولا ينفكُّ عنك حتى يتبلورَ همُّكَ فكرةً خلاقةً أمام عينِكَ وعيونِ من حولِك.
الكتابةُ قضيةٌ تزاحمُكَ معانيها، تتطايرُ من حولِكَ أنفاسُهَا، تناديك أصداؤها، تلاحقُكَ أطرافُهَا، تستوقفُكَ أبعادُهَا، تستحلفُكَ أن ترسلَها نورًا يريح بالَكَ، ويضيءُ كَيانَكَ، ويعانقُ وُجدانَك.
هكذا هي الكتابةُ، وغيرُ ذلك هُراء.
وأقولُ أيضًا:
حينما تقرأُ نصًّا أو تسمعُ سردًا، تتباهى حروفُه بكاملِ زينتِها، وتستنطِقُ أدواتُه أنغامَ حركاتِه وسَكَناتِه، وتنسابُ كلماتُه في حضنِ عباراتِه وفقراتِه، وتُدغدغُ فكرتُه شَهَقاتِ نبضِكَ وإحساسِكَ، وتُدندنُ جماليَّاتُ بيانِه على أوتارِ جوارحِكَ وبناتِ أفكارِكَ؛ فاعلمْ أنك في رحاب فكرٍ طليقٍ؛ يُحلِّقُ بثباتٍ، ويسبحُ بثقةٍ، ويغوصُ في العمقِ بِلا وجَل. فطوبَى لمن امتشقَ صهوةَ الحرفِ ومضَى، والْتزمَ قوْلةَ الحقِّ ووفَى.
سبحانك الله وبحمدك، أشهد ألَّا إلهَ إلا أنت، أستغفِرُكَ وأتوبُ إليك.
** **
- عضو اتحاد الكتاب والأدباء الأردنيين