منتصف عام 1441هـ ضُحَى جُمْعَةٍ مُبَارَكة في طريقنا لصلاة الجمعة في جامع الراجحي فضفضت لسيدي والدي رحمه الله وشكوت له اعتداء حاقد موتور (فردًا أو مجموعة)، كتب فيني ورقات تنم عن حسد وحقد دفينين، فلما انتهينا من الصلاة قال لي ونحن نسير لسيارتي وهو يعقد أنامله بأصابعي يعدد علي ثلاث نصائح كانت عونًا لي على العزاء أمام كل باغ أو حاسد أو حاقد؛ قال رحمه الله: قل لهم: {قل موتوا بغيظكم}، وقل لهم: {أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله}، وقل لهم هذا {بفضل الله}؛ وتبسم رحمه الله إذ نطق معي بالحكمة والشفقة مقترنتين؛ مع تكرر مثل هذه المواقف أرنو إلى رجل الحكمة والشفقة! رَحِمَ اللهُ سَيِّدِي وَالِدِي الشَّيخَ عَبْدَ اللهِ بِنَ غَانِمٍ السِّمَاعِيلِ، وَرَحِمَ حَبِبَتِي أُمِّي نُورَةَ؛ كَمْ أشتاقهما! كم أحتاجهما كُلَّ حِينٍ! رَحِمَهُمَا اللهُ رَحْمَة وَاسِعَةً وَوَالِدِيهِمَا وَوَالِدِينَا وَذُرِّيَاتِهِمْ وَالمُسْلِمِينَ.
أَبَتِي الحَبِيبَ قَصِيدَتِي تَرْنُو لَكُمْ
إِنْ قُلْتُ شِعْرًا فَالفُؤَادُ المِحْبَرُ
وَإذَا ذَكَرْتُكَ خَالِيًا يَا وَالِدِي
فَالدَّمْعُ مِنِّي صَيِّبًا يَتَحَدَّرُ
وَإذَا اضْطَجَعْتُ عَلَى السَّرِيرِ تَخَالُنِي
طِفْلًا يَتِيمًا فِي الَحرَارَةِ يُصْهَرُ
وَإذَا رَأَيْتُكَ فِي الأَمَاكِنِ يَا أَبِي
أَبْصَرْتُنِي بَيْنَ الملَا أَتَعَثَّرُ
وَإذَا رَأَيْتُ الأَقْرَبِينَ تَنَكَّرُوا
أَشْتَاقُ نُصْحَكَ وَ القَطِيعَةُ أَنْكَرُ
وَإذَا رَأَيْتُ مِنَ الحَبِيبِ تَكَدُّرًا
أَرْنُو إِلى لُقْيَاكُمُ أَتَدَثَّرُ
وَإذَا جَفَا مَنْ كَانَ خِلًّا وَافِيًا
أُغْضِي لِأَنِّي بَعْدَكُمْ مُتَصَبِّرُ
وَإذَا أُصِبْتُ مُصِيبَةً قَارَنْتُهَا
بِمُصَابِكُمْ فَإذَا المصِيبَةُ أَصْغَرُ
وَإذَا حُرِمْتُ مِنَ اللَّذَائِذِ خِلْتُهَا
لا شَيءَ عِنْدِي! تِلْكَ حَقًّا أَحْقَرُ
وَإذَا بَغَى فِي نَهْبِ مَالِي ثُلَّةٌ
فَمَعَ التَّأَلُّمِ نَهْبُ مَالِي يَصْغُرُ
وَإذَا تَزَايَدَ حِقْدُ مَنْ أَكَلَ الَهوَى
مِنْهُ الفُؤَادَ وَصَارَ نَارًا تُسْجَرُ
نَثَرَ الكِنَانَةَ كَي يُصَوِّبَ سَهْمَهُ
مِنْ حِقْدِهِ نَحْوِي فَلَا أَتَقَهْقَرُ
ذَاكُمْ بَأَنَّكَ يَا حَبِيبِي مَاثِلٌ
فِي نُصْحِكُمْ فَأَرَاكَ عِنْدِي تَأْمُرُ
أَبَتِي لَقَدْ جَمَعَ العِدَا وَتَأَلَّبُوا
وَتَنَوَّعَتْ فِيهِمْ رِمَاحٌ تَنْخُرُ
فَالعَظْمَ مِنِّي كَمْ أَرَادُوا كَسْرَهُ
حِينًا فُرَادَى ثُمَّ حِينًا جَمْهَرُوا
لَكِنَّ نَجْلَكُمُ أَيَا أَبَتِي بَدَا
طَوْدًا مُنِيفًا لَيسَ ثَمَّ تَكَسُّرُ
«مُوتُوا بِغَيْظِكُمُ» لَكَمْ رَدَّدْتَهَا
فِي مَسْمَعِي أَبَتِي وَقَلْبِي يَنْظُرُ
«أَوَ يَحْسُدُونَ النَّاسَ» كَمْ قَدْ قُلْتَهَا
فَغَدَتْ لِدَائِي بَلْسَمًا بَكَ أُجْبَر
ذَاكُمْ «بِفَضْلِ اللهِ» مَا لَقَّنْتَنِي
تِلْكَ الثَلَاثَةَ حِينَ جِئتُكَ أُخْبِرُ
كَلَّا وَرَبِّي لَا تَزَالُ نَصِيحَةً
قَدْ حُزْتُهَا دُرًّا نَفِيسًا يُنْثُرُ
إِنْ أَنْسَ لَا أَنْسَى أَنَامُلَكُمْ بِهَا
عَقَدَتْ يَمِينٌ نُصْحَكُمْ وَتُكَرِّرُ
وَاليَومَ يَأْتِي حِقْدُهُ يَا سَيِّدِي
مِنْ بَعْدِ مَا مُتُّمْ وَنُصْحُكَ يُذْكَرُ
وَإذَا طَغَى خَصْمٌ لَدُودٌ فِي اعْتِدَا
وَهَوَى بِبَغْيٍ فِي الخُصُومَةِ يَفْجُرُ
يُلْقِي يَمِينًا كَاذِبًا فِي قَولِهِ
تِلْكَ الغَمُوسَ وَنَابُهُ مُتَكَشِّرُ
أَلْفَيتُنِي مُتَىبَسِّمًا كُحْلًا لَهُ
لَكِنَّ هَاتِيكَ المكَاحِلَ مِجْمَرُ
«اِكْحَلْ عَدُوَّكَ» إنْ رآكَ بِهَيْئَةٍ
جَذْلَى وَنُصْحُكَ يَا حَبِيبِي أَشْهَرُ
وَلَقَدْ رَأَيتُ أَيَا أَبِي أُعْجُوبَةً
ذَاكَ «البُغَاثَ بِأَرْضِنَا يَسْتَنْسِرُ»
إنِّي أَيَا أَبَتِي الحَبِيبَ مُطَاوِعٌ
فِي نُصْحِكُمْ أَحْيَا الحَيَاةَ وَأُزْهِرُ
وإِذَا تَوَثَّبَ حَاقِدٌ لإِسَاءَةٍ
فَاللهُ حَسْبِي ثُمَّ لا أَتَأَثَّرُ
إنِّي أَيَا أَبَتِي الحَبِيبَ مُسَامِحٌ
فَالعَيْشُ بَعْدَكَ هَيِّنٌ.. أَوَ أَثْأَرُ؟!
أَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ فَهَاجِسِي
أَنْ كُنْتُ يَومَكَ فِي المقَابِرِ أُقْبَرُ
أَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ حَيَاتُنَا
مِنْ بَعْدِكُمْ أَبَتِي هَبَاءٌ يُنْثَرُ
لَكِنَّنِي أَبَتِي أُصَابِرُ بَعْدَكُمْ
حَتَّى أَكُونَ مِدَادَكُمْ يَا أَبْحُرُ
يَا سَيِّدِي أَرْجُو الحَيَاةَ لِأَبْتَنِي
مَجْدًا كَمَجْدِكَ.. وَالبَنُونَ تُفَاخِرُ
أَحْبَبْتُ بَعْدَكَ أَنْ أَعِيشَ لِكَي أَرَى
أَوْقَافَكُمْ أَبَتَاهُ فِيكُمْ تُعْمَرُ
أَحْبَبْتُ بَعْدَكَ أَنْ أَعِيشَ لِكَي أَرَى
تِلْكَ الوَصِيَّةَ فِي الأَقَارِبِ تُزهِرُ
أَحْبَبْت ُ بَعْدَكَ ذِي الحَيَاةَ لِأَنَّهَا
جِسْرٌ إليكَ وَفِي الجِنَانِ المحْشَرُ
أَحْبَبْتُ بَعْدَكَ ذِي الحَيَاةَ أَيَا أَبِي
لِأَعِيشَكُمْ أُخْرَى وَطَيْفَكَ أَذْكُرُ
أَحْبَبْتُ بَعْدَكَ ذِي الحَيَاةَ لَعَلَّنِي
يُهْدِي المنَامُ إليَّ حُلْمًا يُعبَرُ
أَحْبَبْتُ هَاتِيكَ الرُّبُوعَ وَأَهْلَهَا
كُنْتُمْ بِهَا وَالعَيْشُ عَيْشٌ أَخْضَرُ
كُنْتُمْ أَبِي وَحَبِيبَتِي أُمِّي التِي
كَانَتْ لَكُمْ نِعْمَ العَشِيرُ المزْهِرُ
إِذْ كُنْتُ بَيْنَكُمَا أَمِيرًا زَاهِيًا
وَالبَيتُ مَمَلَكَةً وَفِيكُمْ يُعْمَرُ
كُنْتُمْ أَبِي وَحَبِيبَتِي فِي دَوْحَةٍ
اللهَ! اللهَ! الرِّيَاضُ النُّضَّرُ
إِنِّي أَيَا أَبَتِي الحَبِيبَ بِفَأْلِكُمْ
أَحْيَا حَيَاتِي وَالمصَاعِبَ أَقْهَرُ
إِنِّي أَيَا أَبَتِي الحَبِيبَ بِزُهْدِكُمْ
أَسْتَرْخِصُ الدُّنْيَا وَلَا أَتَبَخْتَرُ
إِنِّي أَيَا أَبَتِي الحَبِيبَ بِنُورِكُمْ
كَمْ أُدْلِجَ اللَّيلَ البَهِيمَ وَيُنْوِرُ
إِنِّي أَبِي مِنْ بَعْدِكُمْ مُتَصَالِحٌ
مَا جَاءَ: أَهْلًا.. أَسْتَزِيدُ وَأُبْهِرُ
أَمَّا الذِي قَدْ فَاتَنِي إِدْرَاكُهُ
فَالنَّفْسَ أَحْشِمُ.. لَسْتُ ثَمَّتَ أَنْظُرُ!
رَبَّاهُ فَاجْعَلْ فِي الجِنَانِ لِقَاءَنَا
أُمِّي أَبِي وَالمسْلِمِينَ.. نُبَشَّرُ
أَبَتِي رَأيْتُكَ كَعْبَةً أَرْنُو لَهَا
وَاللهُ يَغْفِرُ فِي المقَالِ وَيَسْتُرُ
وَاللهِ إِنِّي فِي القَصِيدِ لَمُولَعٌ
يبْدُو مُحَيَّاكُمْ وَشِعْرِي يَخْطُرُ
** **
- أ.د. إبراهيمُ بنُ عَبدِ اللهِ بِنِ غَانِمٍ السِّمَاعِيلِ