د. محمد بن يحيى الفال
اللغة العربية لغة ليس لها مثيل في القدرة على التعبير الدقيق والأمثل على الوصف، ومن ذلك أمثالها المليئة بالحكمة والتعبير المقتضب والشامل لمختلف التجارب الإنسانية، ومن ذلك المثل أو المقولة الشهيرة «انج سعد فقد هلك سعيد»، وقصة هذا المثل وكما تذكرها كتب التراث العربي تعود إلى حكاية أخوين أحدهما باسم سعد والآخر اسمه سعيد، وقررا الانتقام من حفنة من الأعداء، ولكن شاءت الأقدار أن يُقتل سعيد من قبل هذه العصابة، وعلم بهذا الخبر سعد، والذي بلغته أخبار مقتل أخيه، وأن عليه التواري عن الأنظار والاختفاء، حتى لا يلقى نفس المصير الذي تعرض له أخوه سعيد.
تبادر إلى الذهن هذا المثل بعد خسارة النائبة الأمريكية ليز تشيني لمقعدها عن الحزب الجمهوري لولاية وايومنغ لمنافستها في الانتخابات التمهيدية هارييت هيغمان المدعومة من الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب. ما حدث من خسارة ليز تشيني له دلالة كبيرة على المشهد السياسي الأمريكي في قادم الأيام، ولعل ما ينتج عنه سيشكل خارطة العمل السياسي الأمريكي في الداخل ولسنوات مقبلة. وكما هي الحال مع ما تعرض له سعيد في مثلنا، فالكثير من الساسة الأمريكيين من الحزب الجمهوري يرون في خسارة تشيني لمقعدها درساً لكل من يتجرأ كما فعلت هي على الوقوف في وجه ترامب، والتصويت مع إجراءات عزله مرتين، والجلوس كنائبة لرئيس لجنة 6 يناير المشكلة من الكونجرس للتحقيق فيما تعرض له مبنى الكونجرس من هجوم غاضبين على نتيجة الانتخابات الرئاسية الأمريكية، والتي كان وما زال وما انفك الرئيس السابق يصفها بالمزورة، وبأن الفوز سُرق منه لصالح الرئيس الحالي جو بادين، فيما اصطلح على تسميته من قبل خصوم ترامب بالكذبة الكبرى «The Big Lie».
لعل ما حدث من خسارة لشيني يقع في دائرة ما قد يطلق عليه بمتلازمة ترامب Trump Syndrome وكما هو معروف فإن مصطلح متلازمة المرتبط بالطب أساساً يطلق على مجموعة من العلامات والأعراض لمرض ما أو اضطراب، ونادراً ما يستعمل هذا المصطلح في توصيف لظاهرة في العلوم الاجتماعية ومنها علم السياسة، ولكن تأثير الرئيس ترامب على الحزب الجمهوري، ومستقبل هذا الحزب، لا يمكن إنكاره، ومن هذه المنطلق يمكن وصف هذا التأثير بالمتلازمة لوجود عدة عوامل تداخلت فيما بعضها البعض، لتشكل تياراً سياسياً له قدره غير مسبوقة في التأثير على الناخبين، وهو ما عرف اصطلاحا «بالترامبية»، Trumpism»، وأغلب المنتمين لهذا التيار السياسي هم من البيض من الطبقة المتوسطة والفلاحين والمنتمين لنقابات العمال، خصوصاً في الوسط الغربي الأمريكي، وحزام الإنجيل الممتد من ولاية مينيسوتا شمالاً وحتى ولاية مسيسيبي جنوباً.
لعل السؤال الذي يطرح نفسه هو كيف استطاع الرئيس ترامب التأثير على الحزب الجمهوري وهو بالأصل لم يكن في الفاعلين في الحزب أو بالأحرى جمهورياً حقيقياً!؟ ولعل الإجابة عن هذا السؤال نراها في السؤال نفسه، فكونه لم يكن قريباً من الحزب هي ورقة استخدمها بذكاء شديد في النأي بنفسه عن الساسة في واشنطن، وبأنه من خارج هذه الدائرة التي تتعرض للنقد دوماً من قبل الناخبين وكذلك فخبرته كرجل أعمال، وليس هذا فحسب، بل رجل أعمال بعلاقة قديمة في صناعة الترفيه والإعلام، كونت لديه مقدرة فائقة في معرفة أحلام ومخاوف الناس، مما سهل له خلق قاعدة شعبية كبيرة، تشكلت من ثلاثة محاور رئيسة هي الاقتصاد، الانتماء الوطني والتضييق على المهاجرين، وهي محاور تتزامن وتتداخل مع بعضها البعض، لتشكل كتلة واحدة للتأثير على الرأي العام الأمريكي.
في محور الاقتصاد جاء بشعار «أمريكا أولاً»، الشعار الذي ألهب مشاعر الأمريكيين، خصوصاً الجماعات اليمينية المتطرفة التي رأت في ترامب المثل الذي تبحث عنه، بكونه وطنياً حقيقياً رفض حتى النقد اللفظي لحوادث قام بها متطرفون بيض، ومن تلك الأحداث المؤسفة في مدينة شارلوتسفيل في ولاية فرجينيا في شهر أغسطس 2017، ونجم عنها مقتل امرأة وجرح العشرات.
محور تعزيز قيم الانتماء الوطني هو الآخر لعب دوراً أساسياً في تعزيز قيم الترامبية لدى الطبقة المتوسطة من الأمريكيين، ونرى هذا المحور ماثلاً أمام أعيننا في العروض العسكرية الضخمة التي شهدتها واشنطن في يوم الاستقلال الأمريكي في الرابع من يوليو خلال حقبة حكم ترامب.
محور التضييق على المهاجرين بسياسات تهدف إلى الحد من قبول طلبات الهجرة لأمريكا ووضع شروط عديدة وصارمة لمنحها، وهي سياسات وجدت قبولاً متزايداً لدى شريحة واسعة من الأمريكيين، بغض النظر عن خلفياتهم العرقية، وسبب ذلك يعود إلى الأزمات الاقتصادية التي واجهتها البلاد لتصل لسقفها الأعلى مع الجائحة التي اجتاحت العالم، وما خلفته من أضرار عميقة على اقتصاديات الدول، بما فيها الولايات المتحدة.
قوة الترامبية نراها ماثلة أمام أعيننا في نجاته مرتين العزل كرئيس، الأولي في 2020 أمام مجلس الشيوخ بتهمة إساءة استخدام السلطة وازدراء الكونجرس، والثانية 2021 أمام مجلس النواب بتهمة التحريض على التمرد والإتيان بفعل يخرق القانون في الكونجرس.
قوة الترامبية ومستقبلها هي الآن على المحك، بعد أن قام عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالية بتفتيش منزل الرئيس ترامب في ولاية فلوريدا، ومصادرة مجموعات من الوثائق التي احتفظ بها الرئيس بعد مغادرته البيت الأبيض، وصرحت وزارة العدل الأمريكية بأن الوثائق التي وجدت في إقامة ترامب هي وثائق سرية للغاية، تعرض الأمن القومي الأمريكي للخطر، وإذا صحّت هذه الاتهامات فإن الرئيس ترامب أمامه صعوبات جمة ومصيرية في قادم الأيام. ومع قول ذلك فإن الانتخابات النصفية المقبلة في الثامن من شهر نوفمبر المقبل ستكون الاختبار الرئيس لقوة الترامبية أو نهايتها، ففي هذه الانتخابات سيتم التجديد لكل أعضاء مجلس النواب البالغ عددهم 435 نائبا، و35 سيناتورا لمجلس الشيوخ المكون من 100 سيناتور، بواقع ممثلين عن كل ولاية من الولايات الأمريكية الخمسين.
في هذه الانتخابات المصيرية سيجد المرشحون الجمهوريون أنفسهم بين أمرين أحلاهما مُر «Horn of Dilemma»، وهما الاستمرار في الولاء للترامبية للفوز أو التنصل منها بعد التطورات الأخيرة في تفتيش أقامه ترامب بفلوريدا، وكذلك اعترافات الكثير من الدائرة الضيقة من حوله بأنهم خالفوا القانون، وكان آخرهم آلن فيسلبيرغ المدير المالي السابق لمؤسسة ترامب الذي اعترف بذنبه «في 15 تهمة تتعلق بالاحتيال والتهرب الضريبي».
ومع الانتخابات المفصلية المقبلة في الثامن من نوفمبر لم يترك الرئيس بايدن الساحة السياسية بلا تحركات، فبدأ بسلسلة من المبادرات التي تم المصادقة على مُجملها من الكونجرس، وتتمحور حول الاقتصاد لكسب ثقة الناخبين في حزبه الديموقراطي بمبادرات عديدة، منها مبادرة بناء أمريكا جديدة، ومبادرة إعادة بناء البنية التحتية لأمريكا، ومبادرة تخفيض عجز الميزانية بفرض المزيد من الضرائب على الشركات الكبرى، ومبادرة خطة الإنقاذ لمواجهة تداعيات جائحة كورونا، ومبادرة دعم التأمين الصحي لغالبية الأمريكيين والحد من الانبعاثات الكربونية لخفض ظاهرة الاحتباس الحراري، ومبادرة خفض التضخم، كذلك بدأت أسعار البنزين في أغلب الولايات الأمريكية في الانخفاض، ليبلغ سعر الجالون أقل من أربع دولارات، وذلك فيما يبدو أنه نتيجة لزيارته للمملكة في شهر يوليو المنصرم، والتي أعادت الثقة لسوق الطاقة العالمي، بما تمثله المملكة من دور جوهري في استقرار وآليات عمل هذا السوق.
المشهد السياسي الأمريكي قبل انتخابات الثامن من شهر نوفمبر المقبلة، يمكن رصده في ثلاث تغريدات تصفه بدقة، وهي تغريد للرئيس الأمريكي بايدن بعد تمرير مبادرة الحد من التضخم «لنكن واضحين: في هذه اللحظة التاريخية، الديموقراطيون اصطفوا بجانب الشعب الأمريكي، فيما اصطف كل عضو جمهوري في الكونجرس مع مصالحه الخاصة».
تغريدة الرئيس ترامب بعد اقتحام عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالية لمنزله جاءت على النحو التالي: «طلب جوهري يتعلق بالتعديل الرابع سيتم رفعه للمحكمة، لما تم من اقتحام غير شرعي لمنزلي في مار آي لاغو، وذلك قبل الانتخابات النصفية ذات الأهمية، حقوقي كما هي حقوق الأمريكيين كافة، تم انتهاكها بشكل من النادر حدوثه في بلادنا، تذكروا أنهم تجسسوا على حملتي الانتخابية، وأن هناك -ومنذ ست سنوات- حملة هي الأضخم في التاريخ الأمريكي ضد من يعارض، ومن دون أدنى محاسبة للمخادعين الذين قاموا بها، وهذا يجب ألا نسمح باستمراره».
تغريدة النائبة الجمهورية ليز تشيني بعد خسارتها للانتخابات التمهيدية في ولاية وايومنغ، أمام منافستها الجمهورية هارييت كيغمان، المدعومة من الرئيس ترامب، جاءت على النحو التالي: «قبل سنتين فزت وبسهولة بنسبة 73 في المائة من الأصوات، وكان باستطاعتي حصد نفس النتيجة وببساطة، ولكن يتحتم علي ألا أعترض على أكاذيب ترامب المتعلقة بانتخابات 2020، وهذا مسار لن أسلكه بكون الفوز بمقعد في مجلس النواب، ليس بأهم من المبادئ التي أقسمنا جميعاً على الحفاظ عليها».
انتخابات التجديد النصفية في الثامن من نوفمبر، هي مفصلية وغاية في الأهمية لكل من الحزب الديموقراطي والحزب الجمهوري، والذي سيكون مستقبله لسنوات قادمة، مرهوناً بما ستفرزه صناديق الاقتراع، وإما انفكاك وطلاق من حقبة الترامبية أو يستمر الحزب في الدوران في مدار الترامبية؟! الجواب: الثلاثاء، الثامن من شهر نوفمبر 2022!