مشعل الحارثي
مصاب جلل وخسارة كبيرة للوسط الأدبي والثقافي في بلادنا برحيل الشيخ الجليل عبدالمقصود محمد سعيد خوجة بعد معاناته مع المرض رحمه الله وأسكنه جنات النعيم، وهو الأديب وابن الأديب ومن رافق الرواد الكبار في مسيرة الأدب السعودي، ومن الشخصيات التي لا يمكن لمن عرفها أو اقترب منها أن ينساها وينسى ما كان يحيط بها من هيبة ووقار وتواضع وكرم وجاذبية، وسعة معرفة وثقافة، وهو أيضاً من جيل مارس دوره الريادي باقتدار من خلال أعماله الحكومية ثم عمله في القطاع الخاص والذي سخره ليقدم لنا خلال عمره الطويل تلك الثنائية الجميلة التي ارتبطت باسمه (الاثنينية)، وأصبحت بصمة لا تفارقه ولا يفارقها حتى ترسخت منذ عقود في أذهان الوسط الثقافي والأدبي السعودي والعربي والإسلامي، وكانت كالمنهل العذب والشعلة المضيئة في مشهدنا الثقافي حيث أقامها صاحبها مدفوعاً بكل معاني الحب والوفاء لتكريم رجال العلم ورموز الفكر والأدب، كمجهود عظيم وأثر بارز لا يمكن أن يتلاشى من ذاكرتنا، ولا يمكن لأحد أن ينكرها ويتجاهل دورها في مسيرة الأدب والثقافة في بلادنا بعد أن سخر هذا الرجل النبيل جهده وماله ونظم عقدها طوال أكثر من ثلاثة عقود فاستحالت إلى أحد معالم جدة الثقافية وإلى فعل ثقافي وطني كبير تحدث عنه القاصي والداني.
على مزاهر (اثنينية) العرب
قد اسكرتنا لحون الشعر والأدب
بدور فن مضى يجلو محاسنها
على الورى (الخوجة) الميمون ذو النسب
الفكر والفن والابداع تطلعها
شمساً وترفع عنها سترة الحجب
صلى لها الابداع فابتسمت
لها العروبة من فاس إلى حلب
إن المتأمل لمسيرة الاثنينية وصاحبها بمنجزاتها وعطائها الفريد يجد أنها تشكل مجموعة من صور الحب والعطاء والوفاء، ولعل أول صورة من هذه الصور التي نستخلصها من هذه المسيرة أن صاحبها شرع في إقامتها وتنظيمها وفاءً من الابن للأب لتكون امتداداً لتاريخ والده محمد سعيد خوجة رحمه الله أحد أدباء الرعيل الأول من السعوديين ومدير مطبعة الحكومة بمكة المكرمة ورئيس تحرير جريدة أم القرى الأسبق، ودارته المشهورة بمكة المكرمة التي كان يستقبل فيها حج كل عام كبار الشخصيات من ضيوف الرحمن من الأدباء والعلماء والمفكرين والسياسيين، وجهوده أيضاً في طباعة الكتب العلمية والثقافية.
والصورة الثانية للوفاء تنطلق من وفاء الشيخ عبدالمقصود خوجة للكلمة وإخلاصه لها وقناعته المطلقة بتأثيرها وأهمية احترامها فكانت تحتل مساحة كبيرة لديه من خلال شغفه بها ومسيرته الوظيفية الحافلة في مجال الأعمال وعلاقته برجال الإعلام والكلمة، ولذلك فهو يصف نفسه بأنه عاشق للكلمة يذوب فيها صبابة وأنها هي الحياة كانت في البدء وستظل حتى النهاية.
ولعل صورة الوفاء الثالثة تتمثل في أن صاحبها يعتبر عمله في الاثنينية رسالة وفاء وتقدير لعطاء هؤلاء الرموز من العلماء والأدباء والمثقفين في المملكة العربية السعودية والعالم العربي والإسلامي الذين ضحوا بالكثير وأعطوا الكثير من نتاج عقولهم وكان لهم رصيدهم من التجارب الجديرة بالاسترجاع، ويشير بكل وضوح لأهداف الاثنينية ودوافع هذا التكريم والاحتفاء بتلك الرموز فيقول: (هي كلمة شكر بسيطة ممن يقدر لمن يستحق، وهي قناة توثيق لمرحلة هامة من حياتنا الأدبية والفكرية عسى أن تستفيد منها الأجيال القادمة)، وقد تم تكريم أكثر من (450) شخصية، عدا الأمسيات الاستثنائية الأخرى التي يكرم فيها أيضاً رجال التعليم وكبار الأدباء وذوي الفضل ومن يحقق إنجازاً مميزاً للوطن وفي غير أيام الاثنينية.
أما صورة الوفاء الرابعة فتجسدت في مشروعه الضخم المكمل للاثنينية في إصدار سلسلة فعالياتها التي وصلت إلى أكثر من (40) مجلداً غطت أنشطتها لـ (33) عاماً، ثم الكتب التي جمع بها بعض أعمال الرعيل الأول من الرواد والأدباء السعوديين من أعمالهم المتناثرة في الصحف والمجلات وضمها في مجموعة الأعمال الكاملة في سلسلة كتاب (الاثنينية)، وكذلك مساهمته في طبع ونشر بعض إنتاج الأدباء والشعراء العرب، فوصل المطبوع منها جميعاً إلى أكثر من (70) عنواناً في (178) مجلداً وأكثر من (81268) صفحة و(3324) صورة فوتوغرافية توثق مختلف جوانب الاثنينية، ويكفيها فخراً أنها نالت تقدير القيادة الرشيدة والأسرة المالكة الكريمة، وكبار المسؤولين وعدد من رؤساء الدول العربية الذين ترجموا إعجابهم وتقديرهم لدورها بخطابات الشكر والتقدير التي كانت تنهال على صاحبها في كل موسم من مواسمها السنوية.
قد أحسن المجد اذ سماك (مقصودا)
جمعت في كفك الإيمان والجودا
سارت بسيرتك الركبان وابتهجت
بك المعالي وعشت الدهر محسودا
فمثلكم يا كريم الذات مقعده
على النجوم فدم كالغيث محمودا
في كل (اثنين) يلقاك الطموح على
مشارف العز وقتاً كان معهودا
أنسيتنا حاتم الطائي وسيرته
وابن العميد بكم ما كان مفقودا
وتأتي صورة الوفاء الخامسة ممثلة في حرص الشيخ عبدالمقصود خوجة واهتمامه الكبير بالحصول على الكتب التراثية والمخطوطات من المزادات العالمية بالخارج وإهداء بعضها للباحثين والعلماء من ضيوفه في الاثنينية، وكذلك حضور المناسبات والفعاليات الثقافية في النوادي الأدبية وجمعيات الثقافة والفنون والجامعات ورعاية الكثير من معارض الشباب الفنية إلى جانب يده السخية الممدودة لتشجيعهم ودعم الكثير من الجمعيات الخيرية والثقافية والفنية كجمعية التشكيليين والفوتوغرافيين ووقوفه إلى جانب عدد من المتعثرين من الأدباء والمثقفين.
أما صورة الوفاء السادسة فهي تتمثل في وفائه للمرأة المثقفة وقناعته بدورها المكمل في الحركة الثقافية والفكرية السعودية عندما كسر تلك المحظورات الاجتماعية وجعل الاثنينية تفتح أبوابها لاستضافة عدد من العالمات والمثقفات والأديبات السعوديات والعربيات والسماح لهن بالمشاركة في فعالياتها والحوار مع ضيوفها عبر الدائرة التلفزيونية وفي قاعة خصصت لهن مسجلة بذلك اسمها كأول منتدى ثقافي خاص يشرع أبوابه لمشاركة المرأة.
ندوات (خوجة) في بلادي أصبحت
ضواء واقباساً بصرت منارها
كل يوم معينها كمناهل
من ذا الذي يا سادتي - ما زارها
لك يا ابن (خوجة) سمعة محبوبة
شملت من الدنيا بها أقطارها
لقد حرص كاتب هذه السطور وطوال مسيرة الاثنينية على حضورها والمشاركة في الحوار مع ضيوفها في الفترة المخصصة لذلك، كما مثلت لي وفي بداية مشواري الصحفي أحد المصادر الصحفية المهمة، إذ أتاحت لي الالتقاء بضيوفها وخاصة القادمين من خارج المملكة من كبار الأدباء والمفكرين وإجراء حوارات صحفية معهم منذ وصولهم وقبل يوم الاحتفاء بهم، كما كنت أستفيد من حضور كبار المسؤولين بها للحصول منهم على تصريحات صحفية خاصة بالمطبوعة التي أعمل بها، ومع مضي السنوات ومعرفة صاحبها بشخصي أكرمني بثقته وحسن ظنه واختياري لتقديم بعض أمسياتها وإشراكي أيضاً بالمساهمة في مشروعه التوثيقي لجمع مادة بعض ما تناثر من أعمال الرعيل الأول من أدبائنا في الصحف والمجلات القديمة والتي لم تنشر في كتاب وإعادة طباعة أعمالهم القديمة في مجموعة الأعمال الكاملة.
إيه يا (إثنينية) هي تاج
قد تجلى على جبين زمانه
أنت للفارس المتوج مضمار
تبارى الفرسان في ميدانه
هو رمز الوفاء في جبهة الدهر
كريم في داره وكيانه
هو للمكرمات ردء حفي
هو (عبدالمقصود) في مهرجانه
ومنذ التوقف الإجباري للاثنينية إثر توعك صحة صاحبها ومؤسسها منذ عدة سنوات وحتى رحيله عن دنيانا فقد تركت فراغاً كبيراً في الساحة الثقافية بعد تراجع دور الأندية الأدبية وتوقف الكثير من المنتديات والصوالين الثقافية بجدة، ولم يصمد في المشهد الآن سوى ثلوثية المستشار محمد سعيد طيب، وأسبوعية الدكتور عبدالمحسن القحطاني، وكم كنا نتمنى ومنذ زمن أن يبعث ذلك التوهج للاثنينية وسمعتها التي تخطت المحلية إلى الإقليمية والعالمية الحماس في نفوس أثرياء بلادنا ويدفع بهم ذلك إلى تأسيس مشاريع مماثلة وتسخو أيديهم إما بالرعاية أو الإنفاق على مثل هذه الأعمال الخالدة في جبين الوطن ودعم مسيرة الأدب والثقافة.
وفي (دارة الخير) انعم بها
تشابه في نورها كوكبا
كأن الضيوف همو أهلها
يقيم المضيف لهم واجبا
تربع بالعز حيث اعتلى
وكان الانيس وما أطيبا
فما قيمة المال عند الغنى
إذا لم يكن عزه أهيبا
فكان أبو السعد نعم المثال
وقطب المقاصد والمجتبى
وبعد هذا المشوار الحافل من العطاء كم أتمنى من ابن الفقيد الأخ محمد سعيد خوجة بأن لا يضيع هذا الإرث العريق والبصمة الثابتة في مسيرة الثقافة في بلادنا (الاثنينية)، وأن يعيد لها الوهج من جديد ويكمل مسيرة الوفاء لوالده وجده من قبل، ولا يسعني في هذا المقام وإزاء هذا المصاب الجلل إلا أن أتوجه بخالص التعازي والمواساة لأسرة الشيخ عبدالمقصود خوجة في فقيدهم وفقيدنا جميعاً ورحم الله صديق الأدباء ومحبهم كما يحلو له أن ينادى به رحمة الأبرار وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة وجزاه بأفضل ما يجزى به المخلصون لوطنهم ولأمتهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
الشواهد الشعرية حسب ورودها على التوالي لكل من الشاعر رياض عبدالله حلاق، الشيخ عايض القرني، المربي الشيخ عثمان الصالح، الشاعر زاهر عواض الألمعي، الشاعر سامي حمودة.