سليمان الجاسر الحربش
من أروع ما قالته العرب في تصوير الفراق وما به من لوعة قول الشريف الرضي:
«خلا منك طرفي وامتلا منك خاطري
كأنّك من عيني نقلت إلى قلبي»
خلا الطرف من الصديق العزيز عبد الله العبدالرحمن البراهيم «أبوسامي» منذ أن فقد النطق والحركة وكل الأواصر مع عالمنا المحسوس إلى أن وافاه الأجل المحتوم وووري الثرى يوم الجمعة الماضي، وامتلأت خواطر أصدقائه ومحبيه بذكراه التي تضوع عطرًا وحبًا.
أبو سامي تخرج من كلية الحقوق في جامعة عين شمس في منتصف الستينيات من القرن الميلادي الماضي، تقلب في عدة وظائف آخرها مع رفيق عمره الدكتور إبراهيم العواجي في وزارة الداخلية. كان طيلة حياته الدراسية والمهنية مثلاً راقيًا للمواطن المخلص الحريص على سمعة وطنه والتمسك بأهداب الحق والحقيقة مهما غلا الثمن، هذا السجل المشرف معروف لأولي الأمر الذين عرفوه عن قرب.
أبو سامي احتل مكانة خاصة في عيني وقلبي منذ أن عرفته، هو ذلك النوع من الأصدقاء الذي يجدد علاقته بك كلما التقيته، يتفق معك فيما تطرحه من وجهة نظر حتى وإن كان مخالفًا لرأيه إذ إن المهم في رأيه هو أن يستمر الحوار بين الأصدقاء، وما لم نتفق عليه اليوم نؤجله للغد، لكن ليس هذا فقط هو ما شدني لهذا الصديق الوفي، إنه أكثر من ذلك.
علاقتي بالمرحوم عبدالله أبوسامي بدأت في لحظة كنت اتلفت حولي بحثًا عمن يربت على كتفي.
في خريف عام 1962 وصلت مدينة القاهرة بوعد من مدير إدارة البعثات الخارجية بوزارة المعارف وهو الذي سبق الأستاذ الفاضل سعد الحصين. الوعد هو أنني والزميل المرحوم خدام الفائز مرشحان لمنحة من منح أرامكو الثماني للدراسة بالجامعة الأمريكية في القاهرة، وقد صدر قرار ابتعاثي من مرجعي بوزارة البترول على هذا الأساس، والأمر كذلك بالنسبة للأخ خدام الفايز الذي كان يعمل في الحرس الملكي.
وصلت القاهرة وعلمت من إدارة الجامعة فور وصولي أن هناك خطأً نحن ضحيته إذ ليس هناك منحة لأن المنح أعطيت لمن قابلتهم بعثة الجامعة ونحن لم نكن من هذه الفئة، وأن الأمر كله اجتهاد خاطئ من إدارة البعثات.
ذهبت في اليوم التالي لمكتب الملحق الثقافي (17 حسين واصف بالدقي) لمقابلة المرحوم أحمد المانع، الملحق الثقافي في ذلك الوقت، كان مكتبه مكتظًا بالزوار والمراجعين من بينهم شاب أنيق هيئته تبعث على السكينة لم أعرفه. في تلك اللحظة دخل المرحوم عبد الله العلولاء (أبوسليمان) الذي تخرج في آداب القاهرة وقد وصل بصفته أحد كبار الموظفين في وزارة الشؤون الاجتماعية في مهمة رسمية. دعانا إلى شقة يستأجرها في شارع الانتکخانة المتفرع من ميدان طلعت حرب مع الشاعر المرحوم محمد المسيطير الذي وصل القاهرة لطباعة ديوانه.
خرجنا من مكتب الملحق الثقافي قبل أن نتعرف على الشاب الأنيق، ومازلت أذكر كلمات زميلي خدام بلهجته الحائلية وهو يقول «وش نوحه بس يراعينا».
في شقة العلولاء والمسيطير كان اللقاء مع أبي سامي، بدأ الضيوف يتوافدون وأبوسامي يحيطنا بابتسامته التي عرفت فيما بعد أنها ملازمة له.
كان هاجسنا الأول والأخير هو كيف نتصرف، هل نعود إلى الرياض وقد بدأت الدراسة في جامعة الملك سعود؟ أو نحاول الالتحاق بجامعة القاهرة (مصاريف الدراسة في الجامعة الأمريكية باهظة). جاءت بوادر الحل من أبي سامي إذ طمأننا أنه تحدث مع الأستاذ المانع وأنه يرى أن التوسط لدى جامعة القاهرة أفضل من عودتنا إلى الرياض، هذا يعني أنه سأل عنا بعد خروجنا من مكتب الملحق الثقافي. يا لها من أصالة ونبل! هذا الخبر هدأ من روعنا ونحن في ضيافة أبي سليمان.
نحن الآن في شقة عبدالله العلولاء، دخل أحد الضيوف: سمح المحيا واثق الخطوة هندامه يتناسب مع سنه، قام الجميع وقمت لاستقباله، نظرت إلى أبي سامي مستنجدًا ! فقال لي هذا الشيخ عبدالله القصيمي. عرفت من أبي سامي أنه وصل توًا من بيروت (مكره أخاك) وقد نشر أحد كتبه الشهيرة «العالم ليس عقلاً» وفيه فصل كان يظن أنه سيحول دون دخوله الأراضي المصرية، عرفت فيما بعد أن السماح له بالدخول كان بأمر من الرئيس عبد الناصر.
أخذ الشيخ زمام الحديث بلغة عربية فصحى، كان محور حديثه أن الحضارة الغربية نشأت نشأة ذاتية، فكرة لم تشفع لها عندي ما تزخر به لغة الشيخ من بلاغة واضحة، إذ إنه لم يؤيد ما قاله بأي معلومة أو وثيقة أو مرجع معتمد.
كان القصيمي عفا الله عنه أحد الأقطاب التي تمحورت حولها علاقتي بأبي سامي خصوصًا بعد أن تعرفت بل تشرفت بمقابلة الدكتور المرحوم راشد المبارك وهو صديق حميم لأبي سامي والاثنان من المعجبين بالشيخ ولم يؤثر خلافي مع أبي سامي حول القصيمي وما يقال عن فلسفته على صداقتنا، واتسع الخلاف حول أفكار الشيخ بعد أن توطدت علاقتي بالشيخ نفسه وصار يزورني كلما أتيت إلى القاهرة في مهمة رسمية بعد تخرجي في الجامعة. ورأيي فيه مع كل الاحترام والتقدير لمن بالغوا في تثمينه أنه محاور شرس وأديب يتمزق ومحدث لبق ولغوي يحلق في سماء البلاغة من دون تكلف، كل هذه الصفات تسبغ عليه صفة النديم المرح والمحدث الساخر إذا تطلب الأمر لكنه مع هذا كله يبحر في محيط متلاطم من روائع الكلم ربان ماهر لكن بحره لا ضفاف له تصغي إليه الدقائق والساعات ثم تخرج خاوي الوفاض.
في آخر سنة للمرحوم في جامعة عين شمس انتقل من شقته في ميدان الدقي وسكن عندي في ميدان الجيزة، وهذه التفاصيل مهمة لديّ إذ إنني وزميلي خدام الفايز سبق أن سکنا عنده في فترة كنا خلالها نبحث عن شقة متواضعة بعد أن قررنا الالتحاق بجامعة القاهرة والدراسة على حسابنا الخاص. كانت شقته في شارع المحلاوي ميدان الدقي موئلاً للسعوديين والمصريين.
استمرت صداقتنا الحميمة عبر السنوات التي تلت عودتنا إلى الرياض عام 1966 وصرنا نتبادل الخواطر في أمورنا الشخصية، ومن ذلك أنه بعد خروجه من وعكة صحية تلقى عرضًا من معالي المرحوم محمد عمر توفيق وزير المواصلات للعمل في مشروع سكة حديد الحجاز في دمشق، فنصحته على الفور بقبول العرض على الرغم من أن المشروع أحد الأمثلة على فشل العمل العربي المشترك لكنه محطة في حياة المرحوم أفادته فيما تلا ذلك من سنوات.
في دمشق سكن في حي أبو رمانة وفتح شقته للقاصي والداني من الأصدقاء مثلما فعل في شقة ميدان الدقي بالقاهرة. وحياته في دمشق حافلة بكل ما لذ وطاب، دوّنها بأسلوبه الرشيق وذاكرته الشفافة صديقنا وحبيبنا صالح العلي العذل الذي عاصره في تلك الفترة.
الحديث عن فصول حياة المرحوم وعلاقاته بالناس لا تنتهي لكنّ فصلاً في حياته لا ينُسى ذالكم هو ارتباطه بسيدة ضربت المثل الأعلى في الوفاء والتضحية والإخلاص وهي السيدة منيرة بنت عبدالله الشبانة. هذه السيدة الفاضلة شرفت الزوجة السعودية ووضعت اسمها في قوائم الشرف، كانت لأبي سامي نعم الزوجة والأخت والصديقة والممرضة، هذا النوع من النساء هن اللائي خاطبتهن رؤية 2030، إنه جيل يستحق التنويه والإشادة والتكريم. عظم الله أجرك أيتها السيدة النبيلة ووداعًا أبا سامي طبت حيًا وميتًا أيها الراحل الغالي.