د. عبدالحق عزوزي
يعتبر الاتحاد الأوروبي وحدة مؤسساتية ونقدية قلّ نظيرها رغم الأزمات المتتالية التي تعتريها؛ وهو عبارة عن مشروع فكري وحدوي اختمر في أذهان وكتابات مفكرين وحكماء وفقهاء قانون مبرزين وفلاسفة، قبل أن يصبح حقيقة ومشروعاً سياسياً حقيقياً بمؤسسات قوية تجمع رؤساء دول ووزراء حكومات وخبراء وبرلمانيي الأمم؛ ورغم تباين دولها من حيث درجة التقدم الاقتصادي، فإنها استطاعت مجتمعة إصدار عملة أوروبية موحدة حلت محل العملات الوطنية، وساهمت في إقامة تدريجية لوحدة اقتصادية...
ولكن المشكلة اليوم أن هذا الاتحاد يمر بأزمة اقتصادية وركود غير مسبوق... ففي خضم مخاوف من تأثير أزمة موارد الطاقة على الاقتصادات الأوروبية، تراجع سعر صرف اليورو إلى أدنى مستوياته خلال عقدين في مواجهة الدولار الأمريكي...وهكذا هبط سعر صرف اليورو إلى 0.9901 دولار، ويعتبر هذا المستوى الأدنى على الإطلاق منذ كانون الأول/ ديسمبر 2002، أي العام الذي بدأ فيه تداول العملة الأوروبية الموحدة.
كما أضحى مناخ الأعمال في أوروبا يتدهور بشكل واضح وكبير خلال الأسابيع الماضية، إذ تراجع المؤشر الشهري الذي يُحتسب بناءً على استطلاع لآلاف الشركات في أوروبا ويعطي فكرة عن الأنشطة الاقتصادية، فأوروبا على أعتاب ركود حقيقي في وقت ترخي أسعار الطاقة المرتفعة والتهديد بحصول نقص في إمدادات الغاز بثقلها على كل الاقتصادات الأوروبية.
وفي هذا الصدد، عقدت الحكومة الفرنسية اجتماعاً ترأسه الرئيس إيمانويل ماكرون في الإليزيه. وفي سابقة من نوعها نبّه ماكرون الفرنسيين علناً مما أسماه «نهاية الوفرة» في إشارة لتداعيات الأزمات الكبيرة» الأخيرة من أوكرانيا إلى الجفاف. ودعا الحكومة إلى «قول الأشياء» و»تسميتها بوضوح كبير وبدون تهويل». وصرح ماكرون «إنه تحول كبير نمر به» مستعيداً «سلسلة الأزمات الكبيرة» الأخيرة، من أوكرانيا إلى الجفاف... كما أردف ماكرون قائلاً «تبدو الأوقات التي نعيشها وكأنها مبنية على سلسلة من الأزمات الكبيرة (...) وقد يرى البعض أن مصيرنا دائماً محكوم بإدارة الأزمات أو الحالات الطارئة. من جهتي، أعتقد أننا نمر بتحول كبير أو اضطراب كبير».
ومباشرة بعد هذا التصريح، هددت إليزابيث بورن، رئيسة وزراء فرنسا، بفرض ضرائب إضافية على الشركات التي تحقق أرباحاً مالية طائلة، وحثتهم في نفس الوقت على خفض الأسعار أو تعزيز القدرة الشرائية لموظفيها، مثلاً عبر مضاعفة ثلاث مرات قيمة العلاوات التي يمكن أن تمنحها لهم. ويطلق على هذه العلاوات اسم «علاوات ماكرون» وهي لا تخضع للضرائب؛ لكن هذه الفكرة لا تزال محل نقاش داخل الغالبية الحكومية؛ فنواب حزب «الحركة الديمقراطية» التي يتزعمها فرانسوا بيرو طالبوا تمديد فترة دراسة المسألة إلى غاية فصل الخريف.
وفيما يتعلق باستخدام الطائرات الخاصة للتنقل، صرحت رئيسة الحكومة أن «على أصحاب هذه الطائرات المساهمة كبقية الناس في تخفيض انبعاث الغازات الدفيئة»، معتبرة أنه «من الضروري» أن «يكون الأغنياء قدوة للآخرين».
ومن بين القرارات الأخرى، ستخصص الحكومة الفرنسية رصيداً مالياً «أخضر» قيمته 1.5 مليار يورو لمساعدة التجمعات المحلية في تسريع «خطة الانتقال البيئي» ومحاربة التلوث، فضلاً عن احتمال فرض ضرائب جديدة على الشركات التي تجني أرباحاً هائلة.
كما وعدت بورن بـ»تخفيف» ارتفاع أسعار الطاقة عند انتهاء خطة «الدرع التعريفي» نهاية السنة الجارية. ويهدف هذا «الدرع» إلى إبقاء أسعار بعض المواد الطاقية، على غرار البنزين والكهرباء، وبعض المواد الاستهلاكية معقولة وفي متناول الجميع. وتنوي رئيسة الحكومة تخفيف هذه الأزمة عبر «مساعدات خاصة» للفرنسيين الذين يعيشون في ظروف «هشة» والحفاظ على القدرة الشرائية.
كل هذا الكلام يلخص الأزمة الخانقة التي وصلت إليهما فرنسا وأوروبا، والأشهر العجاف التي تنتظرهما والتخوف من الاحتجاجات المجتمعية؛ زد على ذلك أنه في كل الصالونات الفرنسية والأوروبية المغلقة، هناك حديث عن فقدان الثقة داخل المجال السياسي العام، فلم يعد يثق المواطنون الأوروبيون في حكوماتهم، ولم يعودوا يثقون في نجاعة الديمقراطية التمثيلية، بل لم يعودوا يثقون في كل الأحزاب السياسية.. فهناك حالة من الخوف والإحباط ليس فقط من أحزاب اليمين واليسار التقليديين، ولكن من كل الأحزاب، فلم يعد الأوروبي اليوم يثق في التوجهات السياسية ولا في ممثليها كما أن الرسالة التي وصلت للجميع هي أن نفاد صبر كل الطبقات في مجتمعات صناعية قد يحدث زلازل يصعب معها إيجاد حلول ناجعة...