د.محمد بن عبدالرحمن البشر
أثر البيئة على المعرفة والثقافة واضح جلي سواء كانت البيئة صحراوية أو كانت البيئة الجبلية أو جلدية أو في الغابات، ويكون أثرها على فترات طويلة يستلهمها الإنسان من بيئته التي يعيش بها، وتصنع منه ذلك الإنسان الذي يطوّر نفسه مع ما لديه من معطيات، وما يملكه من قدرات استقي كل ذلك مما لديه، ويحصل على استثمار ما يتوفر من معارف في بيته.
ويملك ابن البادية موهبة القيافة، وهي تتبع الأثر، إضافة إلى ما لديه من مهارات أخرى، مثل الشجاعة في القتال، وتحمّل المصاعب، والعيش على الكفاف، أما ما يتحلَّى به من طبائع فهي كثيرة و متعددة، وليس هذا باب الحديث عنها.
منذ آلاف السنين كان إنسان الغابة يعيش في بيئته، و يلتقط ما يسقط على الأرض، ليسد بها رمقه، بينما نجد أن إنسان الكهوف استغنى بالصيد، وكان يأكل اللحم نياً، حتى استطاع أن يتعرَّف على الشواء من خلال ما خلَّفته الحرائق الناتجة من الصواعق وغيرها، والتي أدت إلى حرق بعض الحيوانات، فجرَّب أن يتذوَّقها فاستساغ طعمها، ودرج على ذلك.
بعد بداية انحسار العصر الجليدي الأخير، قبل اثنين وعشرين ألف سنة أخذت الغابات في الشرق الأوسط وفي الصحراء الغربية تتقلَّص رويدًا رويدًا، وقبل أحد عشر ألف عام حل الجفاف والتصحّر، وأخذ يزور المنطقة بين عام وآخر، وقد تركت هذه التغيّرات المناخية أثراً واضحاً على الغطاء النباتي، واستطاع الإنسان في منطقة الشام، لاسيما حول دمشق، وأيضاً في فلسطين حول يافا أن يتعرَّف على كيفية الزراعة، ليستطيع من خلالها تأمين قوته، فقام بزراعة القمح والشعير والذرة، وحولها تكونت مستعمرات إنسانية، وانتقل الإنسان من إنسان غابة يعتمد على الالتقاط، أو إنسان الكهوف يعتمد على الصيد، إلى إنسان حضري يعيش حول الأنهار، ومنابع المياه، وازدادت معرفته مع مرور الوقت، ومعها زيادة الاستقرار.
بعد أن استطاع الإنسان أن يروِّض الجمل قبل أكثر من ثلاثة آلاف عام، ويستفيد منه في التنقّل، نظراً لقدرته على تحمّل العطش والجوع والأثقال والصبر على ذلك استغنى الإنسان عن جزء مما كان يقوم به الحمار، الذي كان الوسيلة الأساسية الوحيدة في تنقّل الإنسان في الشرق الأوسط، ومن بعده كان الحصان الذي سبق ترويضه في أوروبا، لاسيما في أوكرانيا، ثم تسرَّب الحصان المروَّض إلى منطقة الشرق الأوسط في عهد سليمان عليه السلام أو قبلها بقليل عن طريق هضبة الأناضول، لكنه لا يستطيع تحمّل العطش والتنقّل في الصحاري بالقدر الذي يقوم به الجمل.
بعد أن تكونت الصحراء قبل ستة آلاف سنة مثل الصحراء في الشرق الأوسط، والصحراء الكبرى في إفريقيا، أخذ الإنسان يستفيد من الجمل بعد ترويضه في استغلال الصحراء، والتنقّل في الفيافي، بحثاً عن الماء والكلأ، ليخلق لنفسه بيئة جديدة من العيش لم تكن مألوفة، لكن الصحاري ليس لها معالم معروفة، نظراً لانبساطها، وتماثل جغرافياتها، لهذا أخذ يلهث وراء معرفة جديدة يمكنه من خلالها أن يتعرَّف على الطرق والأماكن التي يتنقَّل بينها، فاهتدى إلى القيافة.
ولقد نسجت قصص حول متتبعي الأثر، بعضها تجاوز الحقيقة أو شابها شيء من المبالغة، وتذكر لنا قصص التاريخ ذلك الرجل الذي رأى أثراً لناقة فعرف لونها، وأنها كانت حامل، وأن بها عرج، وحتى عهد قريب كان في كل منطقة قاف يُقال له مري وهو موظف رسمي من الدولة يتبع أثر الذين ضلوا الطريق، وأيضاً المجرمين الهاربين من العدالة، وأذكر رجلاً ضعف بصره في آخر عمره، وكان يسأل من بجانبه في السيارة عندما كانت الطرق غير معبده عن لون الأرض، وما إن كانت رملية أو سخرية ولون حجرها، ومن خلاله يحدد المسافة المتبقية إلى أقرب قرية.
سأذكر قصة وردت في السنهدرين الكهنوتي أي المجمع في أحد إصحاحات التلمود، حيث كان يتحدث فيها أحد الأحبار عن قصة وقعت له مع تاجر عربي، وكلمة عربي في ذلك الوقت تطلق على البدوي، حيث سأل هذا الحبر التاجر العربي عن أقرب مكان فيه ماء، فطلب منه إعطائه حفنة رمل فشمها العربي، فحدَّد المسافة المتبقية بثمانية فراسخ، وبعد أن سارا مدة من الزمن سأله مرة أخرى، فطلب أيضاً بعضاً من الرمل وشمه، ثم حدد المسافة بثلاثة فراسخ، وسارا معاً حتى وصلا إلى المكان الذي حدده هذا التاجر العربي. وفي قصة أخرى يرويها ذلك الحبر، حيث يذكر أن ذلك العربي قاده إلى جبل الطور، وأراه قبور أولئك القوم الذين توفوا هناك، لكنه اتبع ذلك بقصص خرافية بشكل جلي، ولا يمكن تصديقها، حيث يذكر أنهم بعد وصولهم إلى جبل طور سيناء رأى أحد الموتى وقد رفع ركبته، وأن ذلك العربي سار وهو على جمله حاملاً رمحه من تحت ركبة ذلك الميت، دون أن يلمس أي جزء من الميت.
القيافة موهبة ومعرفة صنعتها الطبيعة والجغرافيا والحاجة، لكن القصص التي نسمعها بين الفينة والأخرى، أو تلك التي نقرأها في الكتب يصاحبها الكثير من المبالغة، وبعد كل ذلك فقد انتهى زمانها بوجود جوجل وغيره من الوسائل الحديثة.