سؤال يدور في مخيلة الكثيرين ويعانق طرحهم في مختلف وسائل التواصل والقنوات الإعلامية الأخرى، مع الإقرار بأن هذا الزمن هو زمن الرواية بامتياز على حساب أجناس أدبية أخرى. ولا شك أن الرواية استطاعت أن تحقق طفرة غير مسبوقة خلال السنوات الأخيرة تمثلت في كم الروايات الصادرة مقارنة بالإصدارات الأدبية النثرية والشعرية، وربما كان ذلك مؤشرًا مهمًّا للحكم بمرور القصة بحالة الركود التي نتحدث عنها.
والحديث عن ركود القصة القصيرة وطفرة الرواية لا يعني التميز في الأحوال كلها؛ إذ نجد الغث والسمين في الأعمال الروائية كما هو الحال مع القصة القصيرة، ونلحظ اختلاف الذائقة الأدبية للقراء مع عوامل أخرى لا تخلو من المجاملات والعلاقات الشخصية التي تبرز أعمالًا ربما تكون دون المستوى لمجرد حضور اسم كاتبها أو لعوامل أخرى ليست محايدة تمامًا.
وربما لا تكون الإشكالية الوحيدة في ركود القصة القصيرة كتابة وتأليفًا وإنما نقدًا وإعلامًا أيضًا، ومع أن لكل جنس أدبي ميزاته وقراءه إلا أننا لا ننكر أهمية الجانب الإشهاري، لا سيما حين يكون الاهتمام بجنس أدبي بعينه أشبه بالموضة السائدة؛ مما يدفع الأدباء إلى مسايرتها ومحاولة اللحاق بركب السائرين فيها. وربما انعكست هذه الظاهرة على حالة الهجرة المستمرة لدى الأدباء من القصة القصيرة إلى الرواية مادامت الرواية تحظى بهذا الاهتمام وتعزز بجوانب الإشهار، والأمر لا ينطبق على القصة السعودية القصيرة فحسب وإنما القصة العربية القصيرة عامة.
ومع اختلاف الأسباب التي يعلل بها الأدباء والنقاد حالة الانتقال من كتابة القصة القصيرة إلى كتابة الرواية التي تمثلت في استسهال كتابة الرواية مقارنة بالقصة القصيرة؛ لمرونة الرواية واتساع عوالمها التي تتيح للكاتب التصرف فيها بحرية، أو لرغبة بعض الكتاب في اتساع الأفق والتعبير أكثر عمقًا عن محيطه، أو العكس تمامًا حين تكون القصة القصيرة محطة للوصول إلى عوالم الكتابة الروائية التي تحتاج مزيدًا من المران والدربة حتى يتمكن منها الأديب، مع الإقرار باختلاف كتابة الجنسين القصصيين. مع مراعاة عوامل أخرى مثل تخصيص الجوائز العالمية والعربية للإبداع الروائي بما يفوق الاهتمام بأجناس قصصية أخرى.
كما يكثر الحديث عن النقد ودوره في دعم الإبداع الأدبي وتعزيز الجانب الإشهاري له مع إبراز قيمته الجمالية، ومن يرى أنه قد دعم الرواية أكثر من القصة القصيرة، ومن يحمله مسؤولية هجرة الكتاب من القصة القصيرة إلى الرواية، إلا أن من الملاحظ ليس فقط في الوسط النقدي السعودي وإنما العربي والعالمي أيضًا صعوبة مواكبة النقد للأعمال الإبداعية، والكتابة عن كل عمل أدبي يصدر، إلا إذا أردنا توجيه النقد توجهًا إشهاريًّا بحتًا؛ بحيث تكون مهمته الأولى الإعلان عن هذه الأعمال ومتابعة صدورها فالنقد من وجهة نظري لا يتعامل مع الإبداع من هذه الزاوية الإشهارية وإنما يعنى برصد ظواهر معينة من خلال النصوص الأدبية أو دراسة نصوص أدبية لربطها بظاهر وقضايا معينة، أو الكشف عن خصوصية بعض الإبداعات التي تجاوزت الأنماط السائدة واتجهت نحو عوالم التجريب، ويتأكد ذلك مع النقد الأكاديمي الذي يتخذ طابع الصرامة حتى في انتقاء النصوص التي تمثل هذه القضايا وتعبر عنها خير تعبير.
وما دمنا نتحدث عن حالة ركود للقصة القصيرة لا فناء؛ فإننا لا نعدم وجود بعض الجهود المميزة في انتشالها من هذه الحالة والتحفيز على كتابتها، وهنا أنوه بما يقدمه الأستاذ خالد اليوسف في رصد الإبداعات السعودية لمختلف الأجناس الأدبية بما فيها القصة القصيرة، وهذه الأعمال الببلوغرافية تشخص الوضع الراهن للكتابة الأدبية وتحفز إلى بذل مزيد من الجهود لتطويرها ومحاولة تحقيق التوازن قدر الإمكان بينها، وهي مرجع مهم للباحثين الذين يسعون إلى دراسة نتاج أدبي ضمن جنس أدبي بعينه، إضافة إلى ما توفره من التتبع الزمني لصدور الأعمال، وتتيح رصد الاختلاف من عام إلى آخر أو من فترة زمنية إلى أخرى.
وحين نتحدث عن حدود مرسومة بين الأجناس القصصية؛ إذ لا يمكن أن تلغى تمامًا، نقر بتنافذ الحدود بين هذه الأجناس أيضًا، وربما يكون من أهم ما يلفت النظر في هذا الجانب ولعله يخرج القصة القصيرة والقصة القصيرة جدًا من حالة الركود ليس كتابة فقط وإنما إعلامًا ونقدًا هو دمجها في قوالب مختلفة كما فعل الناقد والأديب السعودي د. حسن النعمي في مناماته التي نشرها تباعًا على حسابه في تويتر، وهي تجربة مميزة تستحق الإشادة، وتخرج القصة من قوالبها المكرورة إلى عوالم أرحب.
بقي أن أشير إلى أهمية جهود الأندية الأدبية والمؤسسات الثقافية في إعادة وهج القصة القصيرة، ولعل ما قدمه النادي الأدبي الثقافي بالحدود الشمالية قبل أشهر معدودة من تخصيص ملتقى السرد العربي للقصة القصيرة مؤشر مهم على محاولة تحقيق التوازن في الاهتمام بالأجناس القصصية على اختلافها وتحفيز المبدعين إلى اقتحام عوالمها ولفت نظر النقاد إلى التجارب المميزة منها التي تستحق المتابعة والدراسة.
** **
- أ. د. حصة المفرح