كانتِ الثَّمانينات عصرَ بروزٍ وتألّقٍ للقصَّةِ القصيرةِ في المملكةِ العربيَّةِ السُّعوديةِ؛ إذْ إنَّهُ يمتازُ بظهورِ كوكبةٍ كبيرةٍ مِنَ القُصَّاصِ السُّعوديّين، ووَفرَةِ النَّتاجِ الأدبيّ، وتفرُّدِ التَّجارِبِ، وتنوّعِ الموضوعاتِ التي يخوض فيها القُصَّاص، ونهوضِ الحركةِ النَّقديَّةِ وخاصَّة في الصُّحفِ والمجلاَّتِ ممّا أسهمَ في توسُّعِ هذا الفن الأدبيّ وانتشاره محلّيًّا ودوليًّا.
والقصَّةُ القصيرة نوعٌ من الأجناسِ الأدبيَّة، تتعدَّدُ موضوعاتها، وفكرتُها موازيةٌ للواقع، أو مُستقاةٌ من التَّاريخ، أو خياليَّة، لها عناصر تحكمها، وتمتاز عن الرّواية في نواحٍ عدَّة لعلَّ بعض الكُتَّاب لم يعِ منها إلاَّ الطُّول.
وقد شهدتْ القصَّةُ القصيرة في المملكةِ العربيّةِ السُّعوديَّةِ منذُ ذلك العصر زخمًا إنتاجيًّا واضحًا، وكانتِ المحاولاتُ القصصيَّة ناضجةً جدًّا آنذاك، وذات قيمةٍ أدبيَّةٍ عالية تجذبُ النُّقادَ وتحفزُّهم للولوجِ في النَّقدِ البنَّاء الذي يرفعُ من شأنِ القصَّةِ دون الحاجةِ إلى المساسِ بالقاصِّ.
وكما حظِيَتْ الإبداعاتُ القصصيَّة باهتمامِ الأنديةِ والمؤسَّساتِ الأدبيَّةِ والثَّقافيَّةِ في السُّعوديَّة منذ ذلك الوقت، وشملت عنايتهم القُصَّاصَ من خلالِ تكريمهم وتشجيعهم ودعمهم بالمكافآتِ الماليَّة والجوائز في المهرجاناتِ الأدبيَّة، وللتّسعيناتِ نصيبٌ من التّوهُّجِ القصصيّ الذي نالَ الثَّمانينات؛ ففيها نضجتْ القصّة القصيرة وانتعشتْ، وازدهرتْ، وأصبحتْ أكثرَ إقبالًا وإبداعًا وغزارةً ودهشةً.
ولكنّنا بالمقابلِ إذا نظرنا إلى حالِ القصَّةِ القصيرة اليوم نجد أنَّها عمدتْ إلى الأفول؛ بسبب بعض الكتَّاب الذين تملَّكتهم العُزلةُ وسيطرَ عليهم الرُّكودُ؛ فتراجعتْ آليَّات الإبداعِ لديهم، وتعطَّلتْ إمكانيَّاتهم الفكريَّة واللُّغَويَّة، ممَّا أدَّى إلى سباتٍ ثقافيّ عميقٍ نتجَ عنه انحسار وهجِ القصَّةِ القصيرة في المملكةِ العربيَّةِ السُّعوديَّةِ، ولعلَّها كارثة واضحة تهدّدُ ساحةَ الأدبِ السُّعوديّ على الرُّغم من أنَّ وسائلَ النَّشرِ حاليًّا تطوَّرت وأصبحت إلكترونيَّة؛ فلم تعُد تقتصر على الصُّحفِ والمجلَّات والكتب الورقيّة فقط، لذا فإنَّه يمكننا القول إنّها يسَّرت من عمليَّةِ نشرِ المنجزات الأدبيَّة الثَّقافيَّة.
ويبدو لي أنَّ من العوامل التي أطفأتْ بريقَ القصَّةِ القصيرةِ في المملكة:
-إقبالُ القُراء على الكُتبِ الرّوائيَّة والشّعر.
-توجُّه الكُتَّاب المبتدئين إلى أجناسٍ أدبيَّة أخرى كالشّعر والرّواية، وللرّواية النَّصيب الأكبر في هذا الشَّأن.
-الجمودُ الفكريّ للقاصّ وتكرارُ الموضوعاتِ.
-صعوبةُ بناءِ القصَّة بصورةٍ إبداعيَّة لا سيَّما أنَّها قصيرة فتحتاج إلى تركيزٍ، وحبكةٍ، وإبداعٍ، واختزالٍ لا يخلُّ بالنَّصِّ القصصيّ، وجذبِ القارئ، ولغةٍ عاليةٍ، وصياغةٍ أدبيَّةٍ حديثةٍ مُتقَنةٍ، وانسجامٍ في الأحداثِ، ووحدةٍ موضوعيّةٍ، وتوظيفِ الصّورِ المجازيَّةِ.
-النَّقدُ الهدَّام للنَّتاجِ القصصيّ من قِبَل النُّقاد والمختصّين ممّا أسهمَ في عزوفِ المثقّفين عن هذا النَّوع الأدبيّ تحديدًا كونه فنًّا دقيقًا.
ولا يسعني في هذا المقام الثَّقافيّ إلاَّ أنْ أدعو جميع الأنديّة الأدبيّة والثَّقافيّة والنُّقاد في المملكة إلى تكثيفِ الجهود في تبنّي الأعمال القصصيّة الوطنيَّة ودعمها ونشرها، وتشجيعِ الكُتَّاب بنقدِ أعمالهم نقدًا تحفيزيًّا يبني أفكارَهم وإبداعاتِهم ويزيدُ من نتاجهِم الأدبيّ، وعقدِ الدَّوراتِ التَّعليميَّةِ التي تختصُّ بكيفيَّةِ كتابة القصَّة القصيرة وفق أسسِها الصَّحيحة للمبتدئين حضوريًّا أو عن بعد، كما آمل من المثقّفين الالتفات إلى هذا الجنس الأدبيّ وإدراك قيمتهِ الأدبيَّة فهو ركيزةٌ أساسيَّةٌ لفنّ الرِّواية.
وبما أنَّ هناك مؤشّرات تنذرُ بتلاشي القصَّة القصيرة في المملكةِ إلَّا أنَّهُ لا يمكن التَّنبُّؤ باندثارها أو موتها رغم استسهال بعض الكتَّاب المبتدئين إبداعها دون وعي بصعوبتها وخصائصها الفنيَّة؛ لما تمتلكه من إيجازٍ ومقروئيَّةٍ يُمكّنانها من مواكبةِ عصر السُّرعة هذا، ولوجودِ أسماء لامعة كثيرة كتبتْ في مجالِ القصَّة القصيرة في وقتِنا الحاضر وما زالت تكتب حتَّى هذا اليوم، ولا ننسى جهود المحاضن الثَّقافيَّة الأدبيَّة التي دعمت روَّادَ القصَّةِ القصيرةِ في السُّعوديَّة، وشرَّعت أبوابها للقُصَّاص المبتدئين المهتمّين بهذا المجال، وعُنيت بنشرِ الأبحاثِ والدّراسات العلميّة، بالإضافة إلى اهتمامها بجميع الفنونِ الأدبيّة ونشرها ولا مجال لإنكارها، وهي على سبيل المثال لا الحصر، على رأسها: (الأندية الأدبيَّة في المملكة)، و(كرسي الأدب السُّعوديّ) بجامعة الملك سعود- الرّياض، وصحيفة الجزيرة (الثّقافيّة)- الرّياض... وغيرها مِن المنصَّاتِ الأدبيَّة.
** **
- ندى بنت محمد النبهان
Twitter: @nada_alnabhan