د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
يلحظ المتأمل في مشهدنا الثقافي أن الاهتمام بالقصة القصيرة بدأ يتضاءل بوصفه جنساً إبداعياً مميزاً كما كان في السابق، فالكتّاب يكادون يفقدون حماسهم لها متجهين إلى الرواية، والقرّاء بدأوا ينفضّون من حولها رغم قِدَمها، مما يدعو الباحث إلى طرح كثير من التساؤلات حول واقع هذا الفن الإبداعي، وهل أضحت أدباً يعاني التهميش؟ ولماذا أضحت لا تشهد الإقبال نفسه الذي يشهده الشعر والرواية من القرّاء؟ ولماذا لا نجد جمهوراً حقيقياً لهذا الفن؟ وهل السبب في هذا الانحسار يعود إلى الكاتب أو الإعلام؟
لا بد أن نستوعب أولاً أن طبيعة القصة القصيرة جعلتْ لها قارئاً خاصاً مختلفاً، إذ يتميز هذا الجنس الإبداعي بالتكثيف وصغر الحجم، وتضم أفكاراً ورؤى عميقة، تحتاج إلى التأمل والتدبر في المرامي والأهداف التي لا يصرّح بها القاص، وتتطلب من القارئ -لكشفها والوصول إليها- أن يتمتع بثقافة واسعة، ثم إن هذا الفن الأدبي يتميز بالصعوبة على مستوى التكنيك والأسلوب والبناء وتوظيف الفكرة، مما يحتاج من الكاتب أن يشتغل عليه بحرفية كبيرة، ولذلك فكتابتها عصيّة ليست متاحة لكل أحد، ومع وجود أعداد كبيرة من كتّابها لكن قليل مَن أجادها.
وأظن أن من أهم أسباب خفوت القصة القصيرة بشكل عام طبيعة العصر الذي نعيشه من حيث السرعة، وانشغال الناس بأمور الحياة، والسعي وراء كسب العيش، وهي أمور من شأنها أن تغيّب القراءة المتأملة، خاصة مع حاجة هذا الفن إلى التأمل في ظل اكتنازه بالرموز والعلامات والدلالات العميقة التي تتطلب عمقاً في القراءة والكشف، ولعله لأجل ذلك يميل معظم القراء إلى الرواية التي لا تحتاج من القارئ إلى ذات المجهود التأملي والفكري الذي يُبذل في قراءة القصة القصيرة، فالقارئ العادي يحب التفاصيل، حيث نشأ على الحكايات الطويلة والمتسلسلة في الأدب الشعبي، وهو ما توفره له الرواية بامتياز.
ولهذا يصف بعض النقاد أدب القصة القصيرة بالفن الزاهد، إذ يتخلى فيها المبدع عن الكثير من أجل المعنى، فيمخر عباب فكرة ملحة حتى يصل إلى لحظة التنوير، يختم كل هذا الاتقاد بنهاية مُرضية مرتقبة أو أخرى غير متوقعة، تفتح الأعين على اتساعها للتفكير في مسارات مختلفة، آخذة من القصيدة شعريتها وقوتها، ومن الرواية الحدث والشخصيات، ومن المسرح الصراع السريع الخاطف، فهي فن اللحظات المفصلية في الحياة، لأنها لا تتناول الحدث من خلال زمانه المطلق، بل تختطف اللحظة كسهم ينطلق سريعاً إلى هدفه بكل قوة، ولذا يمكن القول بأن القصة هي المعرفة التامة بقواعد الكتابة، ثم كسرها والتحليق خارج الصندوق.
ولعل من أسباب الركود الذي تشهده القصة القصيرة انتشار شبكات التواصل الاجتماعي، وطبيعة الحياة المعاصرة اللاهثة الذي جعل الومضة تزدهر في العالم الافتراضي والرواية تتسيّد المشهد الثقافي الواقعي، ولأن فن القصة مطواع وقابل للتعايش والتأقلم، كنبتة صحراوية تتقبل التجريب والتجديد الذي لا يتخذ المنحى الإيجابي دائما، فثمة تغريب وإغراق في الغموض وتخلخل في البنية الفنية لهذا الفن السهل الممتنع، وعدم تمكن من الجملة القصصية المحكمة التي تتطلب التخلص من أدران اللغة، وتشذيب النص القصصي من المفردات الفائضة عن البنية الفنية، وعدم الانقياد إلى جمالية اللغة وشعرنتها على حساب البناء الفني، مما أسهم في قلة متذوقيها وقرائها.
وأعتقد أن من أبرز أسباب هذا الركود كما يرى النقاد فقدان القصة لوريدها الرئيس، وهو الصحافة الورقية التي بدأت تتراجع منذ بداية الألفية الثالثة، فقد عملت الصحافة على تقديم جسر شبه يومي يربط القارئ بالقصة، بعيداً عن بنية الكِتاب/المجموعة القصصية، ومع هذا التراجع تداعت البنية السردية التي طورتها القصة في القرون الثلاثة الأخيرة، خاصة ابتعادها عن الحكائية/الصائتة لصالح القص/الصامت الذي يعتمد على قراءة العين والتأمل، في حين كانت الحكاية/الصائتة تعتمد على الحس/الحكمة والسماع والتفاعل المباشر، بينما يناقض القص الحديث جوهر الحكائية وإن لم يلغها، فالحكائية تعتمد على الاستقراء الحدسي، في حين تعتمد القصصية على الاستنتاج التأملي الذي أمّنته الصحافة الورقية التي أصبحت بديلاً عن الحكواتي.
ومع غياب هذا النوع من الصحافة وانقراض النمط القرائي الذي أشاعته بين القراء لم يتمكن الكِتاب/المجموعة القصصية من ردم هذه الفجوة، عكس الرواية التي استثمرت في الكِتاب منذ نشوئها، مما أدى إلى قطع شريان القصة الحديثة المتمثل بالسرد الصامت التأملي المدعوم من الصحافة، وهكذا تعرضت القصة إلى نكستين متتاليتين زاد من تأثيرهما التسونامي الروائي، سواء لدى الكتّاب أو القراء، وانفتاح النص الشعري على غيره من الأجناس الفنية، خاصة القصة التي امتصّ طاقتها، ومع خسارتها الهيكل والجوهر أصبح من المحتّم تطوير أسلوبها وموضوعاتها على صعيد الشكل والمضمون، حتى تعود إل ى المنافسة، وأرى أن ما يحدث حالياً في المشهد الأدبي من محاولات إنعاش لهذا الجنس الإبداعي من خلال المسابقات والجوائز والمهرجانات ما هو إلا محاولات بائسة لا أظنها ستؤتي ثمارها ما لم يتم تغيير جذري على مستوى البناء الفني للقصة القصيرة.
ومن يتأمل في ماضي القصة القصيرة وحاضرها يجد بوناً شاسعاً في قوة الحضور وحجم الاهتمام، ليس على المستوى المحلي فحسب، بل حتى على المستوى العالمي، فقد كانت فترة الستينات والسبعينات ومنتصف الثمانيات في الكثير من الدول فترة زخم سياسي وحزبي كبيرين، وكانت عامرة بالشعارات العريضة والآمال، ولأنَّ الفنون والآداب هي وجه عاكس للحراك الاجتماعي في أي مجتمع، وبالنظر إلى طبيعة جنس القصة القصيرة واحتوائها على حدث رئيس واحد، وقصر مساحتها، وإيحاء كلماتها وعباراتها، فقد كانت الأكثر ملاءمة لأجواء تلك الفترة، غير أنَّ سيطرة التقنية، وانتشار ظاهرة القلق، جعلت الإنسان يجد نفسه مشدوداً لما يعطي يومه الراكض شيئاً من حياة يتمنى لو عاش مغامرتها، وهنا جاءت الانتقالة الأكبر لجنس الرواية على حساب القصة القصيرة، وهذا ما انسحب على الكاتب والناشر وجمهور القراء، فضلاً عن تحيز المسابقات والجوائز للرواية، فوجد المجتمع نفسه يقصي القصة، ويُعلي حضور الرواية وانتشارها، ويجعلها الزاد الأطيب على مائدة الإبداع الإنساني.
ومع كل هذا أرى أنَّ تراجع القصة القصيرة ما هو إلا تراجع مؤقت، ولعله أقرب إلى إعادة تموضع، وانحناء لعاصفة الرواية، وهذا يُلقي بلا شك على عاتق كُتَّاب القصة القصيرة ومبدعيها مسؤوليةً كبيرة، من خلال الارتقاء بهذا الفن الجميل، والنهوض به، وعدم ترك الساحة لأدعياء القصة القصيرة الذين أفسدوا ذائقة القُرَّاء، فأبعدوهم عنها، كما تقع على النقَّاد مهمة التعريف بالمجموعات القصصية المميزة، وتقديمها للمتلقين كلوحات إبداعية تستحق القراءة والاهتمام.