سهام القحطاني
إن شيوع فن هو مؤشر على فوضى معايير الإنشاء والتقييم
لماذا تراجع وهج القصة؟
كان التحول من القصة إلى الرواية تحولاً طبيعياً وحيناً لا يسلم من «الجبرية».
إن أي انقلاب أدبي أو ثقافي على قالب من قوالب الإبداع والثقافة له أسباب عدة يمكن اختصارها فيما يأتي:
* تطور المجتمع، فمستوى تطور المجتمع ونوع ذلك المستوى يتحكم في إنشاء الفنون الإبداعية والقوالب الثقافية التي تتوافق مع ذلك التطور، والأمر لا يتعلق بجانبي الإبداع والثقافة بل يكاد يكون «سُنة حياتية» كما يتجلى لنا ذلك الانقلاب في الملبس والمأكل وطريقة التفكير ليصل غزوه إلى أبسط شؤون حياتنا؛ فلكل حقبة اجتماعية فنونها الخاصة التي تُعبر عن مجمل تطبيقاتها.
* اختلاف عقلية وذائقة المتلقي الذي هو المتحكم الرئيس في «بورصة الفنون الأدبية» فهو من يرفع قيمة فن مقابل تخفيض قيمة فن آخر.
إن القصة هي «فن اللاتفاصيل» بسبب خصائصها الفنية فهي تميل إلى «الرمزية» التي تتناسب مع خصائصها، والرواية هي «فن التفاصيل» و»الكشف عن المستور المستتر خلف الأبواب المغلقة»، وهذا ما جعل المتلقي ينجذب إلى الرواية لحدّ الهوس لارتباطها بالفضائح واقتحامها الثالوث المحرم، وسيطرة الذهنية الدرامية على عقل المتلقي بسبب ارتباطه بفنون التلفاز والسينما، مقابل ابتعاده عن القصة لضيق تفاصيلها واتساع رمزياتها التي تحتاج إلى المتلقي النخبوي وليس الشعبي، وبذا ارتفعت قيمة الرواية و مساحة حضورها بارتفاع قيمة الشعبي ومساحة حضوره، وتراجعت القصة كونها فناً نخبوياً كما تراجع النخبوي.
وهوس المتلقي بالرواية هو الذي رفع قيمتها في السوق الثقافي لتتراجع جماهيرية القصة، وهو تراجع أغرى فيما بعد كتّاب القصة إلى «هجرها» والتحوّل إلى الرواية لينالوا حظاً من كعكة هوس الجمهور بالرواية.
* فوضى معايير الإنشاء والتقييم، القصة فن صارم المعايير لا يستطيع اقتحامه إلا صاحب موهبة حقيقية كاملة، في حين أن الرواية سهلة البناء والتشكيل-كما يعتقد من اقتحمه من أنصاف وأرباع الموهبة-وليس في حقيقة خصائصها- وهذا الاستسهال في كتابة الرواية باعتبارها كما هو السائد عند الكثير سهلة الإنتاج فأنت لا تحتاج سوى فضائح واقتحام المحرمات والكثير والكثير من الثرثرة.
وبلاشك فإن دور النشر العربية دعمت هذا الإسهاب الذي غطى السوق الثقافية بالروايات أكثرها فاسد فنياً وأسلوبياً وموضوعياً وأقلها سيظل في ذاكرة التاريخ.
* متلازمة الرواية والشهرة، وهذه المتلازمة التي حفّزت كتّاب القصة على هجرها والذهاب إلى الرواية، بل وحوّلت القصة إلى فن إبداعي «من الدرجة الثانية»، عزّف عنها حتى من يملك القدرة على كتابتها، وبذلك تراجع إنتاجها وما ظل يتحرك على استحياء.
ويمكن أن نُرجِع لنشوء هذه المتلازمة إلى هوس دور النشر للرواية وتبني إنتاجها وخاصة في السوق الثقافي الخليجي، والسبب الآخر هو دخول «النقد الأدبي» ميدان الرواية، فتخصص «نقاد ثقافيون في نقد الرواية» وتمجيدها وغض البصر عن عيوبها الفنية فكان الموضوع هو مسطرة التقييم، لا البناء الفني وخصائصه وخُصصت ملتقيات أدبية فقط «للرواية و تمجيدها» وهنا غابت القصة في ضجيج أصوات المصفقين للرواية، تلك الملتقيات التي أعتبرُها بمثابة «الجناية النقدية» في حق الرواية التي أضرتها ولم تُسهم في تقويمها أو نضوجها بل في قتلها القتل البطيء.
لكن ما نشهده اليوم هو «تراجع للرواية» في زخم هيمنة الأوعية الرقمية وسطوة مواقع التواصل الاجتماعي، ووجود مصادر أخرى للفضائح، لكن هذا التراجع هل سيمنح القصة فرصة ذهبية لإعادة وهجها؟.
أظن أننا في انتظار عودة «القصة القصيرة جداً» لأنها الأقرب إلى خصائص الأوعية الرقمية ومواقع التواصل الاجتماعي؛ لأن هذا النوع الأدبي هو الذي أصبح الأكثر مناسبة لِم نعيشه من ثورة رقمية.
ولذا فلن نندهش عندما نرى في قادم الأيام هجرة عكسية من الرواية إلى القصة القصيرة ونحن في انتظار ماذا سيقدم « المهاجرون الجدد» للقصة.