رؤية - خالد الدوس:
لم يكن علم الاجتماع علماً سهلاً في بداية نشأته وتكوينه من الناحية البنائية والوظيفية، لأنه يدرس المجمعات والظواهر الاجتماعية وعلاقات الناس فيها, والتفاعلات الاجتماعية، وهي بالتالي مختلفة, ومتعددة, ومن هذه المعطيات السوسيولوجية تمخضت عدة تعاريف بتعدد العلماء والعصور التي مر بها في مراحل مختلفة, كما ارتبطت هذه التعاريف ارتباطاً تاماً بموضوع هذا العلم الخصيب ومنهجه وبعلاقاته بغيره من العلوم الاجتماعية, فمرة هو علم المجتمع, ومرة أخرى هو علم الظواهر الاجتماعية، ومرة هو علم دراسة العلاقات الاجتماعية أو السلوكيات الاجتماعية وهكذا.
ولا مناص أن علم الاجتماع مرَّ بمراحل مختلفة ومتنوعة إلى أن استقر على مسماه الحالي (علم الاجتماع), في موطنه المجتمع الفرنسي بعد أن تأثر الفكر الاجتماعي بفلسفات اليونان والصين والرومان إلى أن جاء الإسلام والفكر الإسلامي بمنهجه الشمولي وتأثر به, حيث ظهر العالم العربي الشهير بحسه الاجتماعي وفكره الرصين وأفقه الواسع (عبد الرحمن ابن خلدون) رحمه الله (1332-1406م) فأحدث نقله نوعيه وتغييراً كبيراً في مفهوم هذا العلم وتحدث في موضوع المجتمع البشري في حركاته وسكونه, ونادى بضرورة إنشاء (علم العمران البشري) في مرحلته المخاض الأولى وهو يصوغ موضوع هذا العلم من خلال قوله: إن الاجتماع الإنساني ضروري لأن قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحقيق حاجته ومن ثم فتحصل الحاجة.. يعد حجر الزاوية في الاجتماع الإنساني وضرورته وأن تغير العمران حقيقة أساسية, فأحوال الأمم والعالم لا تدوم على وتيرة واحدة وإنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال. كما أكد على الأخذ بمنهج المقارنة بين الماضي والظاهرة وحاضرها, وكذلك أكد على أهمية وصول العلم إلى صياغة القوانين التي تحكم العمران من خلال الملاحظة والتحليل لهذا المجتمع. ولقد أولى «ابن خلدون» الناحية التطورية للمجتمع ولهذا العلم الذي أسماه (علم العمران البشري) عناية كبيرة والعوامل التي تؤثر فيه, وقد توصل من دراسته للمجتمع إلى قانون الأطوار الثلاثة.. «الأجيال الثلاثة» وهي:
1- طور النشأة والتكوين 2- طور النضج والاكتمال 3- طور الهرم والشيخوخة.
والخلاصة أن ابن خلدون حدد موضوع العلم بدراسة المجتمع الإنساني ورأى أن هذا الموضوع يتحدد بما هو ضروري وما هو اجتماعي وأن هذا المجتمع ليس ثابت الأحوال وإنما هو دينامي ومتغير يلعب الصراع بين العصبيات دوراً بارزاً في تغييره وتنميته, وحدد التوجه المنهجي لهذا العلم بأدوات البحث الاجتماعي في إطار تاريخي حتى يمكن الوصول إلى القوانين التي تحكم هذا المجتمع, ولقد تألق (الفكر الخلدوني) نظريا وعلميا حين ركز على هذه الأبعاد والعمليات الهامة التي كانت ولا تزال من بين أبرز ما يميز علم الاجتماع من غيره من العلوم الإنسانية والاجتماعية.
وهكذا يمكن القول أن «ابن خلدون» يعد أول مفكر حدد موضوعات علم الاجتماع وأهميته ورسم منهجه.. بيد أن آراءه وكتاباته لم يكتب لها الشهرة والانتشار في زمانه إلى أن قام بعض المستشرقين في القرن التاسع عشر بترجمة مقدمته وتحليل آرائه فارتفع صيت وأسم هذا العالم الفذ منذ ذلك الوقت إلى قائمة المؤسسين الأوائل والرواد العظماء لعلم الاجتماع.
ثم جاء الأب الثاني لعلم الاجتماع العالم الفرنسي سان سيمون (1760-1825م) وكان أول من نظر إلى التطور الإنساني نظرة تقوم على دراسة الواقع وأول من دعا إلى إنشاء علم للإنسان يرتكز على مناهج العلوم المجردة وقد أدرك ضرورة قيام هذا العلم الجديد وأسماه (الفيزياء الاجتماعية) وكان يقول لدينا فيزياء فلكية, وفيزياء أرضية وفيزياء نباتية وحيوانية, ولكننا بحاجة إلى فيزياء أخرى وهي «الفيزياء الاجتماعية» وحسب آراء العالم سان سيمون الفيزياء الاجتماعية تقوم بدراسة الظواهر الاجتماعية دراسة موضوعية, على أن ينظر إلى هذه الظواهر بنفس الروح التي ينظر بها إلى الظواهر الفلكية والطبيعية والكيميائية.
أما المرحلة الثالثة فقد شهدت ولادة علم الاجتماع بمفهومه ومسماه الحالي على يد العالم الفرنسي أوجست كونت (1798-1857م) وعالجه بطريقة منهجية بعد أن درس علم الفيزياء الاجتماعية الذي أنشأه أستاذه الفيلسوف (سان سيمون) ثم عدله وسّماه العلم الاجتماعي ثم اختار له أسم (علم الاجتماع) وحدده عام 1830م بأنه العلم الذي يدرس الظواهر الاجتماعية دراسة عقلية. وبالتالي بدأ علم الاجتماع يأخذ مكانه بين العلوم الأخرى ابتداء من منتصف القرن التاسع عشر حيث بدأت الدراسات الإنسانية تأخذ مجرى الاتجاه العلمي, وبدأ الاتجاه إلى تطبيق مناهج العلوم الطبيعية من ملاحظة وتجريب ومقارنة على يد العديد من العلماء والفلاسفة والمفكرين ومنهم مؤسس علم الاجتماع الحديث (أوجست كونت) الذي ألبس هذا العلم الحيوي (قميص) مسماه الحالي (علم الاجتماع) وجاء هذا الحدث العلمي انعكاسا للإحداث المضطربة التي اتسم بها عصره حيث أدخلت الثورة الفرنسية تغيرات مهمة على المجتمع, ومن هنا سعى كونت لوضع علم جديد للمجتمع لتفسير القوانين التي تنظم حياة العالم الاجتماعي مثلما هي الحال في العالم الطبيعي.
وقد سار «أوجست كونت» وراء أستاذه «سان سيمون» ووضع قانون الثلاث المراحل، المرحلة اللاهوتية, والمرحلة الميتافيزيقية، والمرحلة الوضعية, وقد حاول أوجست كونت تطبيق فكرة معلمه الفيلسوف «سان سيمون» في أن الظواهر الاجتماعية يمكن أن تدرس بطريقة علمية وخصص كونت جزءاً من كتابه(دراسات في الفلسفة الوضعية) لهذا العلم, وقد قسم(كونت) علم الاجتماع في كتابه إلى قسمين:
1- علم اجتماع الخاص بالاستقرار, أو الاستاتيكا الاجتماعية.
2- علم اجتماع الخاص بالتطور, أو الديناميكا الاجتماعية.
وتشير الاستاتيكا الاجتماعية إلى البناء الاجتماعي الثابت ومدى تماسك أجزاء المجتمع مع بعضها البعض, أما الدينا ميكا الاجتماعية فهي تهتم بالتغيرات الاجتماعية وطبيعتها وأسبابها واتجاهاتها وعمليات الصراع التي تعمل على تفكك النظام الاجتماعي.
وهذا يعني أن علم اجتماع مرَّ بثلاث مراحل بنائية بدءً بصاحب الفضل في مرحلته الأولى ابن خلدون -رحمه الله - الذي أنشأ هذا العلم الخصيب لأنه أول من استكمل الخصائص المنطقية التي يجب توفرها في كل علم من حيث الموضوع والمنهج والأغراض التي يرمي إليها، وتركيزه بحسه الاجتماعي وحدسه التاريخي على الأبعاد النظرية والعملية والعمليات الهامة التي كانت ولا تزال من بين أبرز ما يميز علم الاجتماع عن غيره من العلوم الاجتماعية الأخرى. ثم المرحلة الثانية على يد أشهر رواد «السوسيولوجيا الوضعية» في القرن الثامن عشر وابرز فلاسفة الغرب (سان سيمون) الذي تنبه إلى تأسيس علم جديد يدرس الإنسان في المجتمع وهو علم الاجتماع أو ما يسمى عند (سان سيمون) بالفيزياء الاجتماعية وتسعى إلى دراسة الظواهر الاجتماعية مثل العلوم الطبيعية بالاعتماد على الملاحظة العلمية ودراسة الوظائف العضوية التي تؤديها الفيزياء الاجتماعية وتبنيه المنهج الوضعي في دراسة المتغيرات المجتمعية باستعمال أدوات البحث العلمي الملاحظة والوصف والتجريب والتفسير والمقارنة. ومروراً إلى المرحلة الثالثة والأخيرة التي شهدت ولادة أسم علم الاجتماع واكتمال نموه العلمي على يد مؤسس علم الاجتماع الحديث الفرنسي أوجست كونت الذي أعطى هذا العلم الأخطبوطي في شمولية فروعه وتعدد ميادينه الحيوية.. الاسم الذي يعرف به في وقتنا المعاصر, عندما أكد على ضرورة وجود علم مستقل يهتم بدراسة المجتمع وظواهره, ويدرس مشكلاته والعوامل التي تساعد على استمراريته, وأطلق عليه أسم علم الاجتماع، واعتبره علما وضعيا مثل سائر العلوم الطبيعية، وكان يهدف من قيام هذا العلم هو إعادة بناء المجتمع الفرنسي وتطوره.. بعد أن هزته الفلسفات النقدية والتحركات الثورية في تلك الحقبة الفارطة.