اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
عندما يصدر شاغل المنصب أوامره إلى مَنْ دونه فإن الرابط بين هذه الأوامر وطاعتها ليس مجرد علاقة بين مصدر الأمر والمنفذ، بل يوجد طرف ثالث يمثّل السلطة التي يرجع إليها الفضل في إصدار الأمر وفرضه على المنفذين في حين يتأرجح التنفيذ قوةً وضعفاً تبعاً لدرجة نفوذ شاغل المنصب وتأثير شخصيته.
والسلطة هي حق فرض الإرادة، ويتمحور مفهومها حول الطريقة التي يتبعها شاغل المنصب للسيطرة على الأتباع والآلية التي يستطيع من خلالها التحكم في العمل داخل المؤسسة، بوصفه يمثِّل الرمز بالنسبة للسلطة والمؤسسة وعن طريق أوامره تتوحَّد كلمة الجميع وينصهرون في بوتقة واحدة لخدمة المؤسسة والسلطات الأعلى.
وحتى يكون شاغل المنصب أهلاً للقيادة واستلام السلطة يتعيَّن عليه أن يكبح جماح السلطة من خلال استخدام المسؤولية في سبيل خدمة المؤسسة التي يحتل قمة هرمها والأتباع الذين يأتمرون بأمره، طبقاً للصلاحيات الممنوحة وتسلسل المراجع واستخدام رادع المسؤولية لمواجهة دافع السلطة.
وسلطة شاغل المنصب يستمدها من سلطة الجهة التي ينضوي تحت لوائها وصولاً إلى السلطة الأعلى، وهي التي تمنحه حق القيادة والحق في اتخاذ القرارات وإصدار الأوامر من أجل خدمة المؤسسة والأتباع وتحقيق المصلحة العامة، وذلك بفضل ما يتمتع به صاحب المنصب من سلطة حازمة ذات طابع مرن تساعد على تنمية العمل الجماعي في حدود لزوميات السلطة واستخدامها وفق الأسلوب النظامي المشروع الذي يهدف إلى خدمة المصلحة العامة والأتباع.
والمطلوب من شاغل المنصب الذي يرغب الرفع من شأن سلطته وجعلها فاعلة أن يسخرها في خدمة المصلحة العامة، متجاهلاً مصلحته الشخصية ورغباته الذاتية مع الجمع بين الأسلوب القيادي والأسلوب الرئاسي بالشكل الذي يتم على ضوئه الاعتماد على تأثير الشخصية والقيادة بالقدوة أكثر من الاعتماد على السلطة.
وبما أن السلطة تحتاج إلى هيبة والهيبة تحتاج إلى احترام فإن المنصب يمنح السلطة والصلاحيات ولكن سلوكيات شاغله هي التي تمنحه الاحترام وتجعل السلطة مهابة مع الأخذ في الحسبان أن مصدر السلطة الصحيح هو الأتباع وليس المرتبة أو الرتبة بما يظهره هؤلاء الأتباع من تشجيع صاحب المنصب وطاعته وتجديد قوته.
والنفوذ يشكل مفتاح النجاح بالنسبة لشاغل المنصب وليس السلطة، حيث إن السلطة تنقاد لشاغل المنصب الذي يتبع الأسلوب القيادي، محدداً أهدافه وعارفاً كيف ينفذها، ومتحمّلاً المسؤولية في سبيلها وكما قال أحد فلاسفة القادة: السلطة تتبع القائد الذي يعرف كيف ولماذا لأن المسؤوليات تنجذب للقائد الذي يحملها على أكتافه.
ولا بد أن يشعر شاغل المنصب بقدسية مبدأ السلطة الذي يمثّله وقيمة المهمة التي أتاحت له هذا التمثيل وما يعنيه ذلك من ضرورة احترام السلطة وجعلها مقدرة ومهابة والشعور بأهميتها وفهم ما يقابلها من مسؤولية.
وترتيباً على ذلك يتحتم على صاحب السلطة أن يضعها في مكانها الصحيح، وينظر إليها بالمنظار الصريح على المستوى المهني والإنساني، فلا يغلب عليه غرورها وسرورها، ولا يستغلها لمصالحه الخاصة وما يفضي إليه هذا الصنيع من اتخاذ السلطة وسيلة لتحقيق المصالح والأطماع، وتحويلها إلى حاجز يحول بين شاغل المنصب والأتباع، ويفسح المجال لبعض الانتهازيين الجياع، الأمر الذي يترتب عليه انحراف السلطة عن مسارها واحتدام الصراع، والزج بالمؤسسة في طريق التيه والضياع، وقد قال هنري كيسينجر: السلطة شهوة، ومساكين القادة الذين لا يفهمون كيف تتلاعب بهم هذه الشهوة.
وبالطبع فإن الذي يقدس مبدأ السلطة ويحترم مهمتها يصعب عليه التنازل عن أي جزء منها أو التنصل عن تبعاتها والمسؤوليات المترتبة عليها، الأمر الذي يفرض عليه بذل الغالي والنفيس لكي تحظى سلطته بالقبول الحسن من قبل المرؤوسين الذين ينظرون إليه بأنه قدوة في سلوكه ومسلكه، جامعاً بين احترام السلطة وتأثير الشخصية على النحو الذي يؤهله لأن يكون رمزاً للسلطة وقدوة يُقتدى به من قبل المرؤوسين وقد قال ثيودور دايت: هل القائد مثقل بالسلطة أم مستمتع بالسلطة؟ هل القائد وقع في شرك المسؤولية أم هو الذي سعى إلى المسؤولية؟ هل يحركه الآخرون أم هو الذي يحرك الآخرين؟ هذا هو جوهر القيادة.
والمصلحة العامة هي التي تضع الحدود وترسم القيود بالنسبة للسلطة وما يقابلها من مسؤولية، كما تمنح القوة لشاغل المنصب في سبيل تأدية عمله والسيطرة على أتباعه عن طريق تكريس سلطته وتفعيل منصبه على نحو ينعكس مردوده الإيجابي على كل من السلطة والمسؤولية بما يخدم السلطة الأعلى والمصلحة العامة.
والمسؤولية هي الالتزام الذي يقع على عاتق شاغل المنصب وبفضلها يتم كبح جماح السلطة ووضعها في حجمها الصحيح ومفهومها الأصلي، حيث إن الشعور بالمسؤولية يعني أن شاغل المنصب يحسب لكل أمر حسابه ويضعه في نصابه، مستخدماً السلطة في زمانها ومكانها، وواضعاً إياها في الموضع اللائق بها بعيداً عن الممارسات المنحرفة والانحرافات الجانبية.
والواقع أن مسؤولية شاغل المنصب المهنية تتضح في مدى التزامه بمهام وظيفته وحرصه على تحقيق الأهداف التي تتطلبها هذه الوظيفة بكل تفان وإخلاص بما يضمن نجاح المؤسسة وقدرتها على النهوض ومواكبة العصر، وقد وردت المسؤولية في القرآن بلفظ الأمانة، حيث قال الله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (الأحزاب: 72) وورد في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم: «كلم راع ومسؤول عن رعيته ... إلخ»
وشاغل المنصب مطلوب منه أن يتحمّل مسؤولية ما يتخذه من قرارات ويصدر عنه من أوامر متقبلاً ما ينتج عن ذلك بكل ثقة وصدر رحب انطلاقاً من أن الوظيفة تكليف لا تشريف والقيادة خدمة أكثر منها سلطة والمسؤولية أمانة في عنقه يتعين عليه الحرص على التمسك بها والسعي في طلبها قبل أن يطلب السلطة والصلاحية.
والاعتراف بشخصية المرؤوس والاعتماد عليه يجعله يتحمّل تبعة ما يضطلع به من مسؤولية، ويتحمس لإنجاز المهمة التي يزداد اهتمامه بها كل ما شعر بإمكانية تنفيذها وأدرك فائدتها، وتأكد أن القيام بها يكشف عن مواهبه وقدراته ويبرز شخصيته.
وتأسيساً على ذلك فإن المرؤوس عادة ما يتذمر من بعض الأعمال المفروضة عليه، ويفخر بما يوكل إليه من مهام ومسؤوليات، إذ إن منح الصلاحية وإعطاء الحرية في اختيار الوسيلة الموصلة إلى الهدف يعتبر باعثاً على تفتق الذهن وتنمية حب المبادرة وتحمل التبعة.
وفي الختام فإن أسوأ ما يفسد السلطة ويبطل مفعول المسؤولية أن يفشل صاحب المنصب في الموازنة بين لزوميات المركزية ودواعي اللا مركزية وأن تذهب به المركزية مذهباً بعيداً تعاني معه المؤسسة من الخلل في قمتها والفشل في قاعدتها بسبب ما يسيطر على القمة من مركزية قاتلة وما تعانيه من بطالة مقنعة يمتد قناعها إلى التغطية على المستفيد من حالة المركزية الشاذة التي نتج عنها تفريغ قاعدة المؤسسة من محتواها وتعطيل العمل فيها وبالتالي انحراف المؤسسة عن مهمتها وانصرافها عن مهنتها واهتزاز هويتها.