رمضان جريدي العنزي
ديننا الإسلامي الحنيف ينهانا عن الإسراف والتبذير وهدر النعم، لأنها ذنوب ومعصية وآثام، وأن نشرب ونأكل ونلبس في غير سرف ولا تباهٍ ولا ترف ولا مباهاة ولا مخيلة، إننا نرفل بنعم عظيمة كثيرة ومتنوعة ولا يعرف قدرها إلا إذا سألنا من لا يجد عشر مالدينا من خير وفير ومديد، {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} جديرة هذه الآية الكريمة بالتأمل والتدبر فقد حملت من المعاني والدلائل ما يدعو لمراجعة النفس قبل حسابها وسؤالها يوم لا تنفع الحجة والمراوغة والتبرير.
إن الطعام المهدر والذي يلقى في القمامة، يكفي لإطعام مئات الناس الفقراء والمحتاجين وأصحاب العوز والحاجة، وأن معدل إهدار الغذاء لدينا يبلغ حداً مأساوياً لا يجب أن يكون، إن التمادي في مظاهر التباهي في المناسبات على حساب القيم السامية لمبادئ المحافظة على النعم يؤدي إلى نقمة لا يحمد عقباها، إن براميل النفايات لدينا متخمة بالطعام، وتئن من حمله، لأن الأغلبية العظمى من الناس لا يعرفون عيار بطونهم ولا عيونهم ولا تفاخرهم الكبير، الرسول- صلى الله عليه وسلم- أمرنا أن لا نسرف حتى في الماء ولوكنا على نهر جارٍ.
إن الشعور بقيمة النعمة يدفع إلى ضرورة الاقتصاد في التعامل معها، فالمجتمعات الأخرى وإن كانت غنية لديها هذا الشعور بالمسؤولية تجاه النعمة، إن الكثيرين يظنون أن الإسراف هو جزء من إظهار النعمة، وهذا خطأ كبير، لأن إظهار النعمة يكون بالاقتصاد فيها وعدم التباهي المخيف بها أمام الآخرين، إن ما بين طرفة عين وانتباهتها يبدل الله من حال لحال، وكم من دول غنية في السابق تبدل بها الحال وتغير، فقبل 100 عام أو يزيد كانت الصومال والسودان وبعض الدول العربية والإسلامية تتداعى لإرسال معونات غذائية لأهل الجزيرة أيام القحط والفقر والمجاعة وقلة الأرزاق، حتى أن الناس حينها أكلوا الجيف والجلود والعظام، والآن ننظر كيف انقلب الحال وأصبح العكس, فالإنسان لا يأمن مكر الله, إن السلوك السلبي للاستهلاك يجب أن يتوقف، وأن يبتعد الناس عن الهدر والتفاخر والتظاهر.
إن هناك فرقاً كبيراً بين الكرم والإسراف، فتاريخنا العربي الأصيل مليء بقصص الكرم الأصيل، وليس الكرم الدخيل، ولا الإسراف والتبذير المخيف، فالضيف كان يأكل مما يقدم له ومما هو موجود دون المبالغة والتكلف والمباهاة ببسط الولائم والتفنن بها، وفق تشكيلات وزخرفة ما أنزل الله بها من سلطان، إننا نصبح ونمسي ونحن ننعم بالنعم ونرفل بها ونعيش رغدها، مأكلاً ومشرباً وقوتاً ومدخراً، أصناف من النعم الكثيرة والتي يعجز المرء عن حصرها وتعدادها، جُبيت من جميع أقطار الأرض التي حُرم كثير من أهل الأرض منه، إن الاستهانة بها ورميها مع النفايات غاية في الإسراف والتبذير وتنم عن عدم الشكر والحمد الذي هو سمة المتغطرسين والمتكبرين والمتعالين ومن لا يقدر للأمور قدرها أو يحسب حسابها.
إن للإسراف والتبذير والبذخ والكفر بالنعم والهياط بها نتائج سيئة للغاية: دمار وخراب وتفرق وشتات، وأن الاستهانة بها ورميها مع النفايات طلقات من العيار الثقيل ونذير سيئ لعاقبة لم يحسب لها المترفون حساباً، في بعض الدول الأوروبية عندما تطلب طعاماً لا بد أن تأكله كله كما طلبته وإلا يفرض عليك ضريبة نتيجة فائض الطعام الذي تركته، إنه الصح بعينه، والواجب بحذافيره، وحتى تدوم النعم ولا تزول علينا كبح جماح الإسراف والتغلب على مظاهر البذخ الكاذب والفشخرة الباهتة بشتى الوسائل والطرق والسبل.
إنني أطالب أئمة المساجد والخطباء والقائمين على محاضن التربية والتعليم وأصحاب المطاعم والفنادق والمنتجعات بالمزيد من التوعية والإرشاد والتذكير بأهمية تعديل هذه السلوكيات الخاطئة بما يتناسب مع قيمنا الإسلامية والعربية الصحيحة، لكيلا يمسنا الضر وتتحول نعمنا التي لا تحصى ولا تعد لا سمح الله إلى عاقبة وويل وثبور، ونصبح لا قدر الله كما كنا نتسول الطعام من الآخرين، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ}، وقال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}، وقال تعالى أيضاً: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا}، فلا تكونوا إخواناً للشياطين ولا عوناً لهم ولا أصحاب، لا تتآخوا ولا تتعاونوا ولا تصطفوا معهم ولا تتشاركوا معهم بصفات الإسراف والتبذير الذميمة، فقط اشكروا نعمة الله وفضله عليكم، لا تسرفوا ولا تقتروا وكونوا بين ذلك قواماً.