لعقود قريبة خلت - وتحديدًا قبل ثورة تكنولوجيا المعلومات وبرامج الاتصال والتواصل - كانت المؤسسة التعليمية إلى جانب غيرها من المؤسسات؛ خاصة منها تلك التي تعنى بالثقافة والعمل الإعلامي يعملون باتجاه تشجيع الفرد على ممارسة القراءة، وليست أي قراءة؛ بل هي تلك القراءة التي تطول مختلف أنواع المعرفة والعلوم والثقافة. ومن هنا فقد كانت شخصية الفرد وحضوره المجتمعي وفوق ذلك الإعلامي يقاسان بحجم ما لديه من كم معرفي وثقافة أقرب ما تكون للموسوعية.
هذا الأمر لم يكن حكرًا على قطر عربي دون آخر، بل كان أشبه ما يكون بالشمولية الجغرافية منه إلى تخصيص بلد عربي دون آخر. ففي الداخل السعودي على سبيل المثال، كان معلم مادة التعبير في المؤسسة التعليمية إلى جانب معلم النصوص الأدبية يعملان بشكل متواز باتجاه تشجيع الدارس على القراءة. وكانت التوصية المستمرة بوجوبية الاطلاع المعرفي، والتشجيع المتوالي والفعل الإجرائي كذلك المتمثل في أخذ الطلاب لممارسة حصة القراءة في مكتبة المدرسة، هي من الممارسات التي أوجدت جيلًا سعوديًا على قدرٍ عالٍ من الثقافة والمعرفة.
ومن هنا فقد كنا عندما نستحضر في جلساتنا أو نتذاكر في أي لقاء اسم القاص أو الشاعر أو الكاتب أو الناقد أو الأديب «فلان»؛ فأول ما نستحضره ذهنيًا، هو ذلك التصور الأيقوني لشخصية تملك ثقافة أدبية واسعة ودراية معرفية تلفت الأنظار، وتواضع جم وتهذيب عال تولد لديها من تلك الثقافة النوعية التي حازتها.
مرحليًا، أجد أنه رغم هذا الكم المهول من الثقافة والمعرفة العالمية التي غدت تزدحم أمامنا بفعل التطور الهائل في تكنولوجيا المعلومات والاتصال، والتي يمكن مطالعتها عبر المكتبات الإلكترونية العالمية الموثوقة ومصادر المعرفة الرقمية المختلفة والتي نحتاج فقط لتفعيلها، أن نقوم بضغط أزرار بسيطة على لوح الكتابة الحاسوبية التي تأخذنا عبر محركات البحث الإلكتروني الشهيرة إلى مقاصدنا الثقافية والمعرفية، إلا أننا نسمع أصوات تردد صعوبة تحقق ذلك، بل يكاد أن يكون هناك شبه إجماع من المكون البنيوي البشري للمجتمع على عدم توفر الوقت الكافي لممارسة الفعل التثقيفي هذا.
فالتتالي الحدثي اليومي الذي ولد المزيد من الأشغال والمشتتات اليومية على الذهن الفاعل للفرد، كما أن برامج التواصل الاجتماعي قد سرقت ما تبقى من الوقت المتاح للقراءة النوعية النافعة، الأمر الذي قد حال دون ممارسة هذا الضرب من الصنيع النافع. ومن هنا فقد أصبح التعاطي مع المكتبات الرقمية هو أمر منوط في الغالب بالباحثين وطلاب الدراسات العليا من الجنسين.
إن أبناءنا وبناتنا في الوقت الراهن لدى الغالبية منهم هاتف محمول مرتبط بالشبكة العنكبوتية، ونجدهم وهم في فترت الانتظار بالمستشفيات على سبيل المثال أو خلال أوقات الفراغ اليومية لديهم الفرصة المثالية لأن يصولوا ويجولوا في مختلف ميادين الثقافة والمعرفة النافعة، ومن ثم يقومون بالعمل على زيادة ثقافتهم الأدبية والمعرفية، الأمر الذي سينعكس إيجابًا على تكوينهم الفكري وشخصياتهم وسلوكهم الماثل للعيان. إلا أن تلك البرامج التواصلية الإلكترونية الجاذبة كفعلٍ وممارسة، والخاوية كمحتوى معرفي وثقافي نافع، والتي يزداد عددها يومًا بعد آخر، تحول في تقديري دون التمكن من تحقيق معادلة التثقيف النوعي الهادف ومن ثم ضعف الرغبة في القراءة والاطلاع لدى الأفراد.
وهذا الأمر –في رأيي- هو الموجة الأولى لإحداث تغيير شمولي مستقبلي في السلوك الثقافي والمعرفي للفرد، بحيث تتبعه موجات أخرى تنتهي بأن يكون لدينا أفراد لا تعني لهم القراءة الهادفة شيئاً، ولا يجدون باعثاً داخلياً في ذواتهم يدفعهم صوبها. بل قد نجد حتى أولئك الباحثين وطلاب الدراسات العليا من الجنسين تكون علاقتهم بالقراءة فقط من أجل تحصيل الدرجة العلمية المنشودة من قبلهم، وهو الأمر الذي يمهد لولادة جيل يمكن لي وصفه بعبارة «القارئ المنقرض». ثقافته هشة ومعرفته التخصصية سطحية وأناه الداخلية متضخمة بشكل كبير كي تخفي جهله ومحدودية ثقافته وقصور معرفته. أعتقد جادًا، بأن المؤسسة التعليمية يمكن لها أن تلعب دورًا كبيرًا في الحيلولة دون حدوث هذا السيناريو المخيف، فقط إن عزمت على امتلك المبادرة والاستباقية الفعل، وقبل ذلك امتلك القائمون عليها رؤيةً نوعية تتسم بالبعد الاستشرافي الواعد.
إن وصف «القارئ المنقرض» في تقديري يمكن أن يمتد ليطول كبار السن من جيل القراءة والتثقيف الورقي -وأنا أحدهم- إن لم نعمل جادين على مواكبة التحول المعرفي الثوري الراهن وأن نسعى بشكل فاعل على استثمار وتوظيف التقانة الإلكترونية في الولوج للمكتبات الرقمية وغيرها من المستوعبات المعرفية من أجل تجديد معرفتنا الراكدة وزيادة رصيدنا الثقافي العام.
** **
- د. حسن مشهور