في تسجيل صوتي قديم وجدته على منصة اليوتيوب، ذكر الكاتب المصري المعروف عباس العقاد أنه حينما بدأ في تأليف كتابه عن ابن الرومي، حذره ناس كثر من شؤم هذا الشاعر وقالوا له إن التجارب كلها تدل على أن من كتب عن هذا الشاعر لم يسلم.
ويزيد العقاد بقوله: من المصادفات العجيبة كل الذين نعرفهم ممن شرح ديوانه أو طبعوه أو أنفقوا عليه أصابتهم كارثة وهم يقومون بهذا العمل.
ثم يذكر أسماء مثل حكمت باشا وزير المعارف المصري السابق الذي أوصى بطباعة ديوان ابن الرومي فسقطت الوزارة ومات الشيخ شريف الذي كان يشرف على شرح ديوانه، والأستاذ المازني بدأ في نسخ قصائد ابن الرومي من دار الكتب المصرية فوقع وكسرت رجله وبقي أعرج لآخر حياته، وكامل الكيلاني طبع مختارات من شعر ابن الرومي فمات أبوه، ثم يذكر العقاد ما أصابه من شاعر الشؤم فيقول: حينما شرعت في كتابة مؤلفي عن ابن الرومي لم يمض قرابة أسبوعين حتى دخلت السجن ومات سيد بيك كامل مدير المطبعة.
ولكن العقاد يؤكد أنه تحدى الشؤم وكل ما أصابه وأصاب الآخرين صدفة لذلك استمر في تأليف الكتاب وطباعته، ويعتز العقاد بهذا المؤلف كثيراً ويصفه بأنه أعز الكتب التي ألفها.
فمن هذا الشاعر المشؤوم وفي أي عصر عاش وكيف مات وماذا قدم للأدب العربي؟
هو أبو الحسن علي بن العباس بن جريج، مولى بني العباس، رومي الأب فارسي الأم، يقول في ذلك مفتخراً:
وكيف أغضي على الدنية
والفرس خؤولي والروم أعمامي
ولد ابن الرومي في بغداد سنة 221 هـ وتوفي سنة 284 هـ مدركاً نهاية العصر العباسي الأول ومعظم عمره في العصر العباسي الثاني.
أما عن شؤمه وتطيره فقد قال عنه أبو العلاء المعري: (كان ابن الرومي معروفاً بالتطير)، ويقول هو نفسه: (الفأل لسان الزمان والطيرة عنوان الحدثان) ويقول شعراً كذلك:
لا تهاون بطيرة أيها النظار
واعلم بأنها عنوان
قف إذا طيرة تلقتك وانظر
واستمع ثم ما يقال الزمان
ويتضح لنا أن ابن الرومي يتفاءل بكل جميل ويتشاءم من كل قبيح.
وأسباب هذا التشاؤم يذكرها الدكتور ركان الصفدي في كتابه (ابن الرومي الشاعر المجدد) حيث يصفه بأنه متطير بلا جدال ويشك في كل شيء في الحياة ويتردد في مواقفه ويشعر بالحب والكراهية في آن واحد، وهو سريع الانقلاب وكل هذه الصفات هي من خصائص العصاب الوسواسي الذي عالجه (فرويد) في كتابه (التحليل النفسي للعصاب الوسواسي)، ويزيد الصفدي بقوله: هناك أسباب اجتماعية وسياسية كانت تلون نفسية ابن الرومي وتزيد في اضطراباتها وخللها؛ منها مثلاً (الانحلال الاجتماعي، والانهيار الاقتصادي، وفقدان الشاعر لأبنائه).
وهذا التشاؤم زاد من إعجاب النقاد به وجعل شعره مميزاً بالإضافة لثقافته وتطور المجتمع العباسي في وقته لذلك كان شعره أكثر تميزاً فقد أفاض في الموضوعات ووسع في المعاني وطرق شيئًا جديداً لم يسبقه أحد عليه.
فالمدح مثلاً عنده بلا مقدمات مثل قوله في القاسم بن عبيد الله:
أيها القاسم القسيم رواء
والذي ضم وده الأهواء
قمر نجتليه ملء عيون
وصدور براعة وضياء.
أما الرثاء فقد كان السائد في عصره رثاء الخلفاء والوزراء والقادة ولكن ابن الرومي اتجه لرثاء أبنائه الثلاثة الذين فقدهم واحدًا تلو الآخر، فها هو يرثي ابنه محمد الأوسط بقوله:
توخى حمام الموت أوسط صبيتي
فلله كيف اختار واسطة العقد
ويقول في رثاء الأكبر منهم:
يا حسرتا فارقتني فننا
غضاً ولم يثمر لي الفنن
وبعد أن خطف الموت أصغرهم قال:
إعلان من أخشى ليؤنس وحدتي
ويدحر عني الهم عند احتضاره
محمد كم قد بت ريحان صدره
ونازعه في الليل فضل إزاره
أما جديد الرثاء عنده فقد كان للمدن في سابقة جديدة في الأدب العربي مثل قوله في بغداد:
يا بؤس بغداد دار مملكة
دارت على أهلها دوائرها
كتائب الموت تحت ألوية
أبرح منصورها وناصرها
وأبدع شاعرنا في الهجاء حتى ضرب به المثل في الهجاء ولم يسلم منه الخلفاء والوزراء والقادة والعلماء والكتاب والشعراء وحتى المغنين والمغنيات، بل وصل به الحال لهجاء نفسه فيقول في ذلك:
من كان يبكي الشباب من جزع
فلست أبكي عليه من جزع
لأن وجهي بقبح صورته
ما زال لي كالشيب والصلع
واستخدم في هجائه الأمثال والكلمات الشعبية الدارجة على ألسنة الناس مثل قوله:
قومته بالشتم يهدي له
فلم أجد قيمته تسوى
استخدم الشاعر الفعل (تسوى) وهو لفظ عامي وظفه في هجائه.
وشاعرنا بذيء مفرط البذاءة في الهجاء حيث ذكر في قصائده ألفاظ الدعارة والعهر والشذوذ الجنسي وهذا يظهر للقارئ من خلال ديوانه الضخم.
وتميز كذلك بالهجاء الساخر ولعل أظرف ما قاله:
لك أنف يا ابن حرب
أنفت منه الأنوف
أنت في القدس تصلي
وهو في البيت يطوف
ونلاحظ وجود نماذج كثيرة من هذا القبيل في هجاء صاحب الوجه الطويل، واللحية الطويلة، والأحدب، والأكول، والأصلع، ومنها ما يتعلق بالقصر والعور، والصوت القبيح، وجحوظ العينين.
ولم يكن ميالاً للغزل، ولعل لحياته العاطفية وإخفاقه في تكوين علاقات بالنساء سبب في ذلك ولكنه مع ذلك تغزل فأحسن الوصف في الغزل ومن ذلك قوله:
مزجت خمرة عينيها بريقها
كيما تكفكف عني من حمياها
فاشتد إسكارها إياي إذ مزجت
ومزجك الكأس ينفي عنه طغياها
ولعل شاعرنا تغزل بالأكل والفاكهة والخمر أكثر من غيرها ومثال ذلك قوله:
ويا حبّذا إمعانُنا فيه ناضجاً
كما جاءَ من تنّوره المتوقّدِ
وإني لمشتاقٌ إلى عَودِ مثلِه
وإن كنتُ أبدي صفحةِ المتجلّد
ووصف شاعرنا الطبيعة بشكل عجيب وعميق مثل طول الليل والرياض المزهرة مما جعل الكثير من النقاد يلقبونه بشاعر الوصف لإتقانه الوصف ومثال ذلك قوله:
رب ليل كأنه الدهر طولاً
قد تناهى فليس فيه مزيد
ذي نجوم كأنهن نجوم
الشيب ليست تزول لكن تزود
وقوله واصفاً لوحة الرياض المزهرة في فصل الربيع:
ورياض تخايل الأرض فيها
خُيلاء الفتاة في الأبراد
ذات وشي تناسجته سوار
لبقاتٌ بحوكه وغواد.
ومن أبياته الجميلة في الحكمة وخلدها التاريخ قوله:
رأيتُ الدهرّ يرفع كلَّ وغْدٍ
ويخفضُ كلّ ذي زنةٍ شريفَه
كذاكَ البحرُ يرسبُ فيه درٌّ
ولا تنفكُّ تطفو فيه جِيفَه
وأخيرًا نقول إن ابن الرومي لم يكن مثل شعراء عصره من حيث التجديد في الموضوعات فقد اعتمد اعتماداً كلياً على المنطق والفلسفة في بناء القصيدة وعندما تقرأ له تحس أنه شاعر حديث سابق لعهده فالمعاني عنده واضحة وسهلة فهو كما قال عنه صاحب العمدة من شعراء الصنعة المطبوعين، وأطال في قصائده وأسرف في الطول حتى ذكر النقاد أن هذه الإطالة من خصائص الكتابة لا الشعر، ولكن إطالته هذه لم تؤثر على شدة تنظيمه للقصيدة ودقة تناسقها.
دمتم بود
** **
- ماجد بن عبدالهادي العرجي