أ.د.عبدالرزاق الصاعدي
لغويٌّ أصيل، راسخُ القدم في فنّه، يجمع بين علوم التراث واللسانيات الحديثة، وهو فوق ذلك أديب أريب وشاعر ابن شاعر، إذا تحدّث في مسألة من مسائل العلم أو الأدب أو البلاغة أو البحث أجاد وأطرب، وإذا كتب أشبعَ وأمتع، تجري اللغة على لسانه سهلة كالماء النقي، وإذا قرأتَ له عرفته قبل أن ترى إمضاءه، إنه الأستاذ الدكتور سعد مصلوح.
حلّ علينا سعد مصلوح في قسم اللغويات في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة قبل سنة ونصف أستاذًا زائرًا في عام 2020/ 2021م، فإن كنّا محظوظين بصحبته بضعة أشهر فقد كانت كورونا ظالمة إذ حرمتنا من الجلوس معه والأنس بحديثه، وكنا نسمعه ويسمعنا من خلف الحُجُب عن طريق التواصل الشبكي، أما أنا فكنت أعرفه منذ زمن بعيد حين وجدت أثره في قسم اللغة العربية الذي منحني درجة البكالوريوس (1984 - 1988م) في جامعة الملك عبدالعزيز، إذ كان أحد أعضائه البارزين بين عامي: (1978 - 1982م) مع عبدالهادي الفضلي وعمر الطيب الساسي وعبدالله الغذامي ويوسف نور عوض، وكان له أثرٌ يذكر فيشكر في بناء ذلك القسم العريق وتكوين شخصيته العلمية، ثم عرفته عن كثب إبّان زيارته العلمية الأخيرة لجامعتنا في المدينة المنورة حين كلّفني قسم اللغويات برئاسة لجنة علمية للنظر في إعداد مسار للسانيات في الماجستير يوازي مسار اللغويات بها، فانتهت اللجنة إلى اقتراح يفضي إلى تطوير البرنامج القائم ليكون في مسارين، أحدهما للغويات العربية والآخر للسانيات، وكان الدكتور مصلوح خير معين لي ولزملائي في اللجنة بمداخلاته الجادة وإلماحاته الذكية وفكره النيّر وسعة اطّلاعة على اللسانيات وخبرته في تدريسها.
وأما الباعث على كتابة هذه المقالة فكلمات قالها الدكتور مصلوح في مقابلة له مع إحدى القنوات الفضائية، في حلية طالب العلم والأستاذ الجامعي المؤثّر، تضمّنت الصفات الثلاث التي ينبغي أن يتّصف بها الأكاديمي وطالب العلم:
الأولى: الدهشة:
والدهشة عند الدكتور مصلوح تُشعل الشغف العلمي، وهي المحرّك لطالب العلم الحقّ، يقول: فإن فقد الباحث الدهشة فَقَدَ جوهر العلم وحقيقته، فلا ينبغي له أن يكون ظاهريًّا (بالمعنى اللغوي) تنزلق عينه على سطوح الأشياء ولا تغوص إلى أعماقها، وحريّ به أن يُدهش مما يُدهِش، واستشهد بقول الغنوي:
وهُلْكُ الفَتَى ألّا يَراحَ إلى النَّدَى
وألّا يَرَى شَيْئًا عَجيبًا فيَعْجَبا
ويرى أن الخطوة الأكيدة إلى خمود العقل هي افتقاد الدهشة، ومن فقدها فقد المثير الباعث الخلاّق وفقد جوهر العلم.
الثانية: الدليل والمستنهض والمحفّز:
وذاك أن الأكاديمي الناجح الذي لا يشيخ عقله هو من يقوم بدور الدليل والمستنهض والمحفّز، للباحثين وطلبة العلم، كما يقول الدكتور مصلوح؛ لأنه سيَحيى بعد موته في عقل من يستجيبون له، وسيبقى أثره حاضرًا في نتاجهم الذي يحمل بصمته، وما دافع ذلك إلا الدهشة والشغف. وأما الاستفزاز فقد يصنع الأعمال الإبداعية، فحين استُفزّ سيبويه في حلقة حمّاد بن سلمة وجُهّل في النحو ألّف «الكتاب» أعظم مصنّف في تاريخ العربية، فأجاد وأبدع.
الثالثة: الفرار من الطريق المأنوس:
فسعد مصلوح يوصي أبناءه من طلبة العلم ألا يكتبوا ما يكتبه غيرهم أو يمكن أن يكتبوه، وأنّ عليهم أن يَطَؤُوا أرضًا جديدة، وألّا يسلكوا الطريق المأنوس؛ لأنه لا يفضي إلى شيء جديد، وأما الطريق المجهول أو المحفوف بالعقبات والمخاطر فربما أفضى بصاحبه إلى كشف جديد. ويذكّرنا قوله هذا بالرسائل العلمية الرديئة في جامعاتنا العربية، فهي في الجملة تجري على الطريق المأنوس الرتيب، فلا تصنع معرفة ولا تصنع باحثين إلا القليل النادر.
وما قال الدكتور مصلوح إلا حقًّا، وما أحوج الأساتذة والطلاب والأقسام العلمية اليوم إلى أن يعوا هذا وأن يعيدوا النظر في كثير مما درجوا عليه وسهّلته لهم الشرائط الأدبية الشكلية التي تتطلبها اللوائح في الأبحاث الأكاديمية في جامعاتنا بدءًا برسائل الماجستير وانتهاء بأبحاث الأستاذية، وهي أعلى درجة أكاديمية يتيحها النظام الأكاديمي في جامعاتنا.
وأختم مقالتي هذه بسؤال غير مأنوس ربما يوافقني عليه الدكتور مصلوح: كيف تكون الأستاذية آخر الدرجات العلمية وخاتمة المطاف لأستاذ دون الخمسين وربما لم يبلغ الأربعين من عمره؟ وما أكثرهم، ألا يدبّ الكسل المعرفي إليه فيجترّ ما حصّله واطمأنّ إليه؟ أليس النظام الأكاديمي يحميه ولا يلزمه إلا بالتدريس؟ فهل من سبيل إلى رتبة علمية بعد الأستاذية؟ رتبة علمية تؤطّر بشروط أكاديمية ووظيفية أكثر صرامة من شروط الأستاذية، تسمّى: أستاذ متمرّس، أو أستاذ خبير، أو نحو ذلك، فإنّ نضج المعرفة لا يأتي إلا بعد الأستاذية، وعمر الأستاذ في جامعاتنا طويل ومبارك، فلعل في هذا المقترح ما يضمن تدفّق العطاء البحثي للأستاذ إلى أن يغادر الجامعة تاركًا أثرًا نافعًا محسوسًا في قسمه، ولعلي أجد الجواب عند أستاذنا القدير، أطال الله بقاءه ونفع به.