رقية نبيل
حليب أسود، أحد الكتب القلائل التي أقرأها ولا تكون رواية، لكن مع شفق تتحول المذكرات إلى رواية، ويصبح كل مشهد وكل وصف وكل صورة تطبعها على الورق مشابهة لما كتبت في روايتها « لقيطة اسطنبول»، حيث نقلتني إلى تركيا حرفيًا بكل صخبها وهوائها وألوانها وتوابلها اللاذعة وحلواها وأسواقها الشعبية التي تضج أناسًا وشخصياتها المتنوعة وحتى خرافاتها التي تختلط فيها القصص الدينية وأساطير الأتراك والأرمن.
وهي في حليب أسود تفعل الشيء ذاته معي، أي ترحل بي إلى عوالمها، إلى الأماكن التي خطت إليها بقدميها، البيوت المنمقة والمركب الغجري، وشوارع اسطنبول وأزقتها.
لقد وصفتُ شفق ذات مرة بلا تورع أنها كارهة لدور ربة البيت العادية، المرأة التي تنفق عقود عمرها على حبل المشاغل وإنجاب الأطفال الواحد تلو الآخر، وتقضي بين جدران المطبخ أكثر مما تمضي في أي مكان آخر، الكيّ والغسيل والتنظيف والطهو والحمل فالإنجاب فالحمل فالإنجاب، روتين يمثل كابوس للكاتبة التركية، فشفق مثلها مثل كل النساء اللواتي امتهنّ حرفة ما ونجحن فيها باكتساح يخشين أكثر ما يخشين حياة كتلك الحياة، ولا غضاضة آخذها عليهنّ فمن ذاق مساحة الحرية والاستقلالية هذه وشعر بطعم النجاح المسكر في فمه وأجاد ما يحب وأحب ما يجيد لا غرابة في أن يبغض حياة الروتين، حياة الاستقرار التي تغرق فيها الأخريات حتى آذانهنّ.
تلك كانت إيللا في الواقع بطلة قواعد العشق الأربعين، حبيسة البيت عاشقة الطهي التي أغلقت أبواب الحب من قلبها، إيللا المرأة الشريفة المتفانية لزوجها وأطفالها، فما كان نتائج ذلك بالطبع عند شفق خلا خيانة زوجها لها المتكررة.
وقبل أن أستنكر هذا وتثور المرأة بداخلي وأسرد ورقة احتجاجاتي، حتى تلج حليب أسود دهليز آخر ويعترض شفق طريقها مفاجآت لم تخطر لها على بال، وتولد من رحم شفق الأولى امرأة جديدة تقع في الحب وتتزوج سرًا وتمسي حبلى وتنجب ثم يعصف بها اكتئاب ما بعد الولادة، وبعد انتهاء أشهر من البكاء والعزوف عن الكتابة يأتيها الإلهام في صباح طازج مبكر وعلى عتبات نسيم تفوح رائحة النقاء منه تهدأ نفسها ثم .. تكتب.
«أربع نساء بحجم أنملة الإصبع، يعشن داخلي ..»تقول «شفق، أسميهن جوقة الفوضى، فهن لا يحسن الغناء ولا يفقهن نوتة موسيقية، ولكن كل واحدة منهن تمثلني، تمثل أنا بعينها مني، هناك الآنسة العملية، والآنسة الدرويشة المؤمنة والآنسة المثقفة الساخرة بملابسها الهيبية والآنسة التشيكوفية الطموح، تخيل أن تقسم روحك لأربعة إناث، ليس هذا فحسب فكلنا له من عمق ذاته وجدان آخر طبقة أخرى من روحه وجه يختلف عن الوجه الذي يكسو صفحة رأسه، كلنا يملك مخلوق آخر يؤانسه يستشيره ويزعق فيه حينما يتخاذل، بيد أن ليس هكذا هو الحال مع شفق!
شفق ترافقها آنساتها الأربع، لكل واحدة منهن وجها واسمًا وشخصية تختلف عن مثيلاتها، لكل منهن مدينة وبيتًا وحديثًا عالٍ جدًا ووجهات نظر شديدة العمق، وتنزل شفق السلالم المملوءة برائحة العطب والطحالب في روحها إليهن، هكذا تلتقيهن، ما أقول هو أن لشفق خيالًا رحبًا رحب محيطات الأرض وبحورها، كيف رسمت لهن خارطة في روحها، قد لا يبدو الأمر مستبعدًا أو غريبًا فتلك كاتبة لقيطة اسطنبول وقصر القمل وقواعد العشق الأربعون وغيرهم .. إنسانة اعتادت الشخصيات أن تتقافز في رأسها طيلة الوقت وصخبها يعلو وحياتها تبين واضحة أمام عينيها لكأنما تنظر في مرآة مسحورة، لكن الاختلاف هنا هو أن حليب أسود ليست رواية إنها مذكرات، ورغم هذا لم تستطع شفق أن تمنع شغفها فكانت الآنسات الأربع هن شخصيات مذكراتها، من قال إن الذكريات واقع محض؟ لماذا لا يكون فيها نتفا من الخيال؟، إن الذكرى مبهمة كالدخان، صور مصفرة حائلة اللون تحتفظ بها تلافيف المخيخ منا، لا يمكن قط الاعتماد عليها ولا يمكن قط حجب الخرافات ومزج أجزاء من التخيل عنها.
حليب أسود إنما هو مزيج من رواية متخيلة وفلسفة فكرية وثرثرة خاصة بين شفق وقارئها، تتحدث بحرية وتستعرض كل ما في جعبتها بشأن مهنة الكتابة ومهنة الأمومة، أي المهنتين تأتي أولًا؟ من تفوق من؟ من قويت على حملهما معًا ومن لم تفعل؟ من ظلمها المجتمع الساخر بالنساء المسخر لهن ربات بيوت وأدوات جلي وتنظيف وخدمة وإنجاب فحسب في حين كن العديد منهن شاعرات وجذلات ومحبات للعلم، احتفظن بقصاصات شعرهن ومتفرقات أفكارهن في صندوق بقن دجاج أو علب المهور كما تقول شفق، وكل كاتب موهوب وكل شاعر عظيم وكل مؤلف سمعنا عنه وانحنى دونه أرباب القلم كلهم كان من الممكن لهم أن يكون لهم أخت أو زوجة أو ابنة تقرض الشعر تسبح مع رياح الوديان البعيدة .. تهيم بعقلها مع بحور التجار القادمين من وراء البلاد، تحلم أن تحمل كتبًا مثل أخيها تحلم بالمكان السحري المسمى مدرسة تحلم أن تمسك ورقة وقلم على الملأ وتشرع تتلو من عناقيد الشعر في قلبها.. حمامة روحها التي هدلت في داخلها تنشد على مسمع من الجمهور المجتمع أخيرًا.. بيد أنها تستيقظ على الواقع القاسي، بلوغ فزواج فدوامة من الأشغال لن تنتهي حتى تجاور قدماها حفرة الموت.
كان يا مكان كان هناك شاعر عظيم يحتفي به الناس ويجله التلاميذ ويعظمه الشيوخ يدعى الفضولي البغدادي، منذ بان نبوغه سارع به أبواه في حلق الشعر والأدب والتفسير والحديث وشتى علوم اللغة، حتى أينع قلمه وانثال نهرًا.
كان يا مكان كان للفضولي أخت حلوى صغيرة باسمة ضاحكة راكضة على الدوام تدعى فيروز، هو اسمها وهو لون عينيها، جذلى تصفق مع الطير وتتسابق مع الدجاج في القن وتضرب الماء بكعب قدمها الصغيرة فيغسل الرذاذ المتطاير وجهها المليح، كانت فيرز تكتم سرًا فقد زارت جبل قاف وتعلمت سحر الكلمة وذاقت شهد الشعر، فنضحت قصائدًا وحلمت بما يمكن لقلمها أن يبدع، ثم أتاها مبلغ النساء فيروز، همست به لأمها فأجابتها أمها قد صارت امرأة ولا تمس المصحف ولا تركض ولا تجري ولا ترفع صوتها فوق صوت الهمس، وحارت فيروز متى يا ترى وصلت طريق النساء ظنته دربًا يعج بالأشجار وستصير امرأة متى ما قطعت دهاليزه كلها وقرأت أشجاره شجرة شجرة لكنه كان بابًا سحريًا سقطت منه ووصلت وانتهى الأمر، وتزوجت فيروز وحبلت فيروز وماتت الطفلة الجذلة من روح فيروز وأمست تجلس هائمة على ثغر نهر تنصت للخرير وتحلم بجبل قاف.
كان يا مكان عشرات النساء كفيروز اكتشفن سحر الأحرف وتعذبن وحدهن بعسل هذا الكشف المحرم.
شفق صارت أمًا أخيرًا لهذا هي تتمعن في حال كل الأمهات الكاتبات اللواتي سبقنها، من نجحت في دمج هذا الخليط من الأمومة والقلم ومن جُنّت وهي تحاول ومن سدت هذا الطريق نهائيًا وأوصدت بابها الموارب وغلقت الأقفال خوفًا من موج الجنون ذاك، شفق صارت أمًا وحليب أسود هو نتاج الكاتبة التي تمسي حبلى وتذوق الأمومة قطرة قطرة بأمر وأعذب وأحلى ما فيها.