د. أحمد محمد الألمعي
كان ولا يزال اضطراب الشخصية موضوعاً مشوّقاً ويحظى بالاهتمام من قبل جميع شرائح المجتمع سواء كنت من داخل أو خارج حقل الصحة النفسية. ويرجع ذلك لعدة أسباب؛ منها كون الموضوع مجالاً يبهر الجميع بدون استثناء لما يحتويه من أبعاد ونقاش يجذب الكثيرين، فهو مدخل لتحليل وفهم الطبيعة الإنسانية وسلوك الإنسان. فاضطرابات الشخصية منتشرة في كل المجتمعات غربية كانت أو شرقية، وتشير الدراسات العلمية إلى نسب شيوع تصل إلى 9 %، كما تصل نسبة شيوع اضطراب الشخصية السيكوباثيه إلى 4 %، وتختلف أعراضها وشدتها حسب الجنس والمجتمع وعوامل أخرى. وتنتشر اضطرابات الشخصية بصفة خاصة في المجتمعات المغلقة، المتشددة غير المتعلمة والتي يتجنب فيها الأفراد النقاش المفتوح عن مواضيع حساسة كونها ممنوعة أو محرمة يحكم التقاليد والعادات المجتمعية الخاطئة أو ما يعتقدون أنه سبب ديني، ويتجنب الكثير من أفراد هذه المجتمعات العلاج النفسي بسبب الوصمة الاجتماعية. فبمجرد معرفة الأقارب بكون شخص أو فتاة يراجعون الطبيب النفسي، يتم وصفهم بالجنون حتى ولو كان السبب أعراض قلق التي تنتشر بنسبة تصل إلى 25 % في كل مجتمع أو قد يكون سبب المراجعة صعوبات تعلم تصيب الأطفال، وقد يكون ذلك سبباً في نفور الخُطاب وتقليل فرص الفتيات في الزواج. وينتج عن ذلك تفاقم الأمراض النفسية والمجتمعية وظهور ممارسات تشمل الدجل والشعوذة مثل زيارة من يدعون العلاج الديني بالرقية وطرد الجن، أو الزار والعلاجات الشعبية التي قد تسبب التسمم ومضاعفات خطيرة.
ويؤدي ذلك إلى تضاعف الكبت والمعاناة وفي النهاية يظهر المجتمع بمظهر غريب متخلف يمارس سلوكيات اجتماعية ودينية غبية تدعو أحياناً للضحك والفكاهة، وإلى الحزن الشديد أحياناً أخرى بسبب ما آلت إليه سلوكيات تلك الأسر والمجتمعات والأمثلة على ذلك كثيرة، وما عليك سوى أن تطلع على وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي وسوف ترى العجب العجاب.
ومن أكثر المظاهر شيوعاً لكسب الاحترام كما يعتقد بعض الأشخاص، هو الظهور بمظهر ديني لخداع من حولهم، لأن ذلك في اعتقادهم يكسبهم احترام وتقدير الجميع بينما يستمرون في الخفاء في ممارسات شيطانية وإجرامية، مثل تعاطي المخدرات والعلاقات الجنسية غير الشرعية والسرقة والظلم والعنف داخل أسرهم. ولا يقتصر ذلك على ديانة أو مذهب معين فذلك السلوك يظهر في كثير من المجتمعات وخاصة المجتمعات التي ينتشر فيها التشدد الديني والفقر والجهل وقلة الوعي. ويتجنب الكثيرون ممن حول هؤلاء الأشخاص مواجهتهم أو انتقادهم بسبب مظهرهم الديني، فذلك قد يجلب للمُنتقد نقمة أفراد المجتمع الآخرين ممن لا يعرفون عن ذلك الشخص السيكوباثي غير الوقار والمظهر الديني السطحي.
ونرى تلك الممارسات في المظهر واستعمال الغطاء الديني في الحديث أحياناً من بعض الكتَّاب والشخصيات المشهورة الذين يميلون لاستعمال عبارات دينيه وأدلة من القرآن والسنة في خطاباتهم ومقالاتهم بهدف دعم ما يناقشونه من موضوعات عوضاً عن التركيز على البحث العلمي والمعلومات التي يجهلونها، لأنهم يعلمون أننا نعيش في مجتمع محافظ ومتدين ويسهل الوصول إلى العقول والقلوب من خلال الخطاب الديني المنمق والمبالغ فيه في بعض الأحيان.
رأيت الكثير من هؤلاء الأشخاص ممن يعانون من الشخصية السيكوباثية وقمت بمعالجة أسرهم التي تعاني من ممارساتهم الصادمة لي كطبيب نفسي لا ينخدع بالمظاهر السطحية، ولكن قانون سرية العلاج الطبي يقيدني أحيانًا ويمنعني من أي تدخل إذا لم يكن مرغوباً من الطرف الآخر، وقد يرفض الضحايا التبليغ أو اتخاذ إجراءات قانونية أو طلب الطلاق بسبب الخوف والتهديدات من الشخص السيكوباثي أو بسبب اعتمادهم المالي على الشخص، الذي يكون في أحيان كثيرة ذا مكانة أسرية أو مجتمعية كبيرة مما يشكل صعوبة في تصديق أي دعاوي ضده فيستمر الضحايا في المعاناة. وأنا أعلم أن كثيراً من أفراد المجتمع وبخاصة السيدات ممن يقرأون مقالي هذا يتعرّفون على وصفي هذا الذي يتطابق مع أشخاص في حياتهم.
ما يحدث في كثير من الأحيان هو وجود رجل في الأسرة زوج أو والد أو أخ كبير مستبد وفي بعض الأحيان يكون أماً أو سيدة ذات مكانة في الأسرة يستخدمون الابتزاز، التخويف والتهديد بالإضافة إلى العنف اللفظي والجسدي لإجبار أفراد من الأسرة على التسليم لرغباتهم التي قد تشمل سلب حقوقهم المالية، التستر على ممارسات غير أخلاقية مثل استعمال الخمر والمخدرات أو العلاقات النسائية غير الشرعية وقد يشمل ذلك الاغتصاب.
أنا لا أتحدث هنا عن ممارسات في الغرب أو أفلام هوليوود فهذه الممارسات تحدث في مجتمعات شرقية متدينة ومحافظة وقد تستمر حتى يتم التدخل من الجهات الرسمية والقانونية لإيقاف ما يحدث. التدخل المبكر للعلاج النفسي للجميع مهم كما أن التبليغ عن الجرائم الأسرية للجهات المختصة لحماية الضحايا يجنب الأفراد والمجتمعات الكوارث. العلاج الديني المقنن له دور مفيد ولكن تحت إشراف وترخيص من الجهات الرسمية.