د.عبدالله بن موسى الطاير
دون عقيدة أو أيدلوجيا لا تستطيع الأحزاب والحركات السياسية والانقلابات والثورات جمع الأتباع فضلاً عن تحقيق أهدافها، ولم تنجح ثورة عبر التاريخ غير مؤسسة على أيدلوجيا. دائمًا ما يكون استدعاء الدين هو الأقرب والأيسر والأكثر فاعلية، وتتوج به الأحزاب وحركات التمرد مبرراتها للسيطرة والهيمنة وإقصاء المنافسين. ومن يدفع بأن العلمانية الليبرالية المؤسسة للديموقراطية الغربية هي حركة غير مؤدلجة فهو يجانب الصواب؛ فقد صنعوا لهم عقيدة ودينًا يسمى الديموقراطية الليبرالية؛ من لا يعتنقه يصنف على أنه عدو تجب دعوته ثم مناجزته حتى يدين بها ويعتنق قيمها ومبادئها، وهي لا ترضى عن المخالفين أبدًا ولا تتعايش معهم إلا في حدود النفاق السياسي.
الليبرالية الديموقراطية، والقومية المسيحية تتنافسان اليوم بعنف داخل المجتمع الأمريكي مع اقتراب الانتخابات النصفية، وتفاقم الفجوة بين الحزبين الديموقراطي والجمهوري، ووصول حالة الاستقطاب إلى مستويات غير مسبوقة يخشى منها على وحدة أمريكا.
يؤمن القوميون المسيحيون بأن الأمة الأمريكية يجب أن تكون مسيحية، وأنه يجب على الحكومة اتخاذ خطوات فعالة للحفاظ على الهوية المسيحة للدولة، وقدّم علماء مثل صموئيل هنتنغتون حججهم بأن «أمريكا محددة بماضيها (الأنجلو-بروتستانتي) وأننا سنفقد هويتنا وحريتنا إذا لم نحافظ على تراثنا الثقافي».
يتنوع الطيف القومي المسيحي من عدم رفض التعديل الأول القاضي بأن «لا يسن الكونجرس أي قانون يحترم تأسيس ديانة أو يحظر ممارسته بحرية»، مروراً بدعوة النائبة عن الحزب الجمهوري مارجوري تيلور جرين أن يكون الحزب الجمهوري حزبًا قوميًا مسيحيًا، ووصولاً إلى درجة أن تنادي النائبة الجمهورية لورين بويبرت بأن «تدير الكنيسة الحكومة، وليس من المفترض أن توجه الحكومة الكنيسة»، معتبرة أن الفصل بين الكنيسة والدولة هو «هراء». هذه النزعات الثيوقراطية ليست شعارات سياسية لتحقيق شعبوية عابرة وإنما هي نتاج حراك فكري يؤسس لتجمعات تلتف حول أيديولوجيات قادرة على الجذب والتكتل والتأثير في سبيل الوصول إلى السلطة.
بالعموم، فإن هناك ميلاً عاماً في الولايات المتحدة الأمريكية إلى عدم الانزلاق نحو الثيوقراطية، وإنما التمسك بمكانة متميزة للمسيحية على الساحة العامة، وهم لا يفصلون بين الهوية الأمريكية والمسيحية «البيضاء» تحديداً. وغير بعيد، في أوروبا، عززت القومية المسيحية ثقافتها في مفاصل الأحزاب السياسية اليمينية المتطرفة وألهمت «القادة السياسيين ذوي النزعة الاستبدادية» الذين يقرعون أجراس الخطر محذرين من «التهديد الذي تتعرض له الحضارة المسيحية بسبب وجود الإسلام»، ولذلك فإن الأحزاب السياسية التي تحظر «ارتداء الزي الإسلامي في الأماكن العامة، وتحظر هجرة المسلمين، وتنادي بإعادة المسلمين إلى بلدانهم الأصلية» ليست دعوات سياسية بريئة، وإنما مؤسسة على القومية المسيحية التي تسعى للحفاظ على الهوية المسيحية وصولاً لهيمنة الكنيسة على الدولة. إن تصاعد «الهجمات ضد اليهود والمسلمين وأماكنهم المقدسة قد تزايدت بشكل حاد في مختلف البلدان الأوروبية، تغذيها المشاعر المعادية للإسلام ونظريات المؤامرة المعادية للسامية» تمثل بعضًا من أعراض تنامي الهوية القومية المسيحية المتطرفة في أوروبا وأمريكا. وإذا كان الإعلام الجماهيري التقليدي الذي سيطرت عليه القوى الليبرالية الديموقراطية قد حجب تلك الأصوات المتطرفة وحرمها من منصات الحشد المؤثرة، فإن شبكات التواصل الاجتماعي قد مدتها بأدوات كانت تفتقد إليها لتجميع أتباعها وتوسيع قاعدة التأييد لها.
بعض المسلمين لديهم النزعة ذاتها، فالخطاب الذي يحرك الشارع هو الخطاب الإسلامي الداعي إلى أسلمة السياسة، وكما يتنصل مسلمون من هذه الدعوات ويعتبرونها ذرائع لتحقيق مكاسب سياسية للوصول للسلطة، هناك مسيحون ضد القومية المسيحية، ويدفعون بأن أمريكا ليس لديها ديانات من الدرجة الثانية وإنما هي لجميع من يعبدون الله سواء «في كنيسة، أو مسجد، أو كنيس أو معبد»، على قدم المساواة بموجب دستور الولايات المتحدة الأمريكية.
القومية المسيحية في نهاية المطاف لن تتورع عندما تتمكن من السلطة عن شن حروب صليبية للمحافظة على الهوية المسيحية، كما أن الهندوسية تشن هي الأخرى حروب إبادة للمحافظة على الثقافة الهندوسية، وإسرائيل فرضت دولتها اليهودية، وولاية الفقيه أسست دولة اثني عشرية، في نهاية المطاف لن تجد الدول الثيوقراطية بدًا من المواجهة العسكرية وكل يبرر حربه بنصوص من الكتب المقدسة وفق تفسيرات متطرفة.
لا يعني هذا أن الليبرالية الديموقراطية التي تفصل الدولة عن الدين هي حمامة السلام التي سترفرف بجناحيها على العالم، فهي بحد ذاتها عقيدة متطرفة لا تتعايش مع غير المؤمنين بها، وإذا كانت القوميات الدينية تشن حروبها باسم الدين فإن الديموقراطية الليبرالية تشن حروبها باسم الإنسانية.