د.عبدالحفيظ عبدالرحيم محبوب
منذ عام 1913 استرد الملك عبد العزيز الأحساء من العثمانيين في خطوة استباقية لقطع الطريق على أي اتفاق بريطاني عثماني لتقاسم النفوذ في الجزيرة العربية، وفي نفس السنة تنازلت الدولة العثمانية عن ساحل الخليج العربي لبريطانيا، ما جعل الملك عبد العزيز يفرض نفسه على خريطة المنطقة، ووضع القوى المتنافسة على النفوذ أمام الأمر الواقع، لما يمتلكه من بعد نظر ودهاء سياسي، لأنه كان يعرف مناورات بريطانيا، لكنه كان حريصاً على إظهار الصداقة معها لتلافي المواجهة، رغم نفوره من السياسات البريطانية.
لاحظ الملك عبد العزيز قبل الحرب العالمية الثانية الاهتمام التجاري الأميركي بالمنطقة، خصوصاً وأن النفط في 1942 تحول من سلعة تجارية إلى سلعة استراتيجية لها أهميتها في السياسة الدولية، وكانت شركات النفط الأمريكية العاملة في السعودية تضغط على الحكومة الأمريكية لحماية مصالحها، مما يعزز وجودها في المنطقة، قادت إلى لقاء الملك عبد العزيز التاريخي بالرئيس الأمريكي روزفلت في البحيرات المرة بقناة السويس في 14 فبراير 1945 في طريق عودته من مؤتمر يالطا الذي انعكس على أهمية مكانة السعودية الإقليمية والدولية.
فبعد دخوله الحجاز عام 1924 في المقابل سلمت بريطانيا الأهواز لإيران لإحداث توازن بين القوى في المنطقة، وكانت روسيا أول دولة تعترف بالمملكة الوليدة عام 1926 ثم واصلت الدول الأوروبية بعد روسيا الاعتراف بالدولة السعودية الجديدة بما فيها بريطانيا, اتجه للقاء رئيس الوزراء البريطاني تشرشل في فندق أوبرج الفيوم على ضفاف بحيرة قارون بمحافظة الفيوم المصرية لتوطيد علاقته ببريطانيا، بعد لقائه روزفلت.
كانت رؤية المؤسس الملك عبد العزيز بعيدة المدى، وأدرك بثاقب بصيرته وقراءته للواقع السياسي العالمي أن الولايات المتحدة سيكون لها دور مؤثر على المسرح الدولي، كذلك أدركت السعودية اليوم بثاقب بصيرتها بقيادة الملك سلمان وولي عهده الأمير محمد بن سلمان أن العالم يتحول من الهيمنة الأمريكية نحو عالم متعدد الأقطاب، وكما أن الملك عبد العزيز وقف على الحياد في الحرب العالمية الثانية في عام 1939، كذلك وقفت السعودية على الحياد في الصراع الغربي الروسي الصيني، وإبعاد المنطقة عن هذا الصراع.
لأن هدف أمريكا عرقلة العلاقات الصينية الأوروبية، خصوصاً وأن الصين واجهت تحدياً في علاقتها بأوكرانيا التي تلعب دوراً مهماً في بناء مبادرة الحزام والطريق الصينية، وهي جزء من ممر النقل الأوراسي، ما عرف بالجسر البري الأوروبي الآسيوي الذي يصل بين الصين وكازاخستان ومنغوليا وروسيا ويصل ألمانيا بسكك حديدية، وفي زيارة الرئيس الصيني في سبتمبر 2013 إلى كازاخستان أعلن الرئيس عن خطته هذه، وهو طريق يصل بين 60 دولة باستثمارات متوقعة تتراوح بين 4 و8 تريليونات دولار.
فيما كانت السعودية أكبر متلقٍّ لاستثمارات مبادرة الحزام والطريق خلال النصف الأول من 2022، رغم أن الاستثمارات انخفضت إلى الصفر في مصر وروسيا وسريلانكا، وطريق الحرير الصيني يلتقي بطريق الحرير السعودي التي هي ذراع اقتصادية جديدة لسعودية المستقبل، وهي حلة جديدة وضعتها رؤية المملكة 2030 الشابة، وتعتبر مورداً غير نفطي يضاف إلى اقتصادها في مختلف المجالات زراعياً وسياحياً وصناعياً وخدمياً، وهي شراكة استراتيجية شاملة، يتجهان إلى القرن الإفريقي وإفريقيا، وعبر البحر الأحمر إلى أوروبا وشمال إفريقيا، وتعتبر جيزان مركزاً جديداً لالتقاء هذين الطريقين.
السعودية عملاق اقتصادي وسياسي استطاعت مواجهة التحديات بالتنمية وتعزيز الأمن، حيث تنظر السعودية إلى إقامة علاقات مع جميع الدول دون استثناء، وترفض إقامة علاقة مع دولة على حساب أخرى، وأنها تسعى لتعزيز علاقاتها مع الولايات المتحدة والصين معاً، ولا ترى السعودية نفسها حصرياً لأحد كما جاء في مقابلة الجبير مع شبكة سي أن بي سي الأمريكية أن السعودية تفضل بناء جسور التقارب مع جميع الشعوب دون أي تمييز، خصوصاً وأن الصين أكبر شريك تجاري للسعودية وأنها سوق ضخم للطاقة وسوق ضخم في المستقبل، والصين مستثمر كبير في السعودية وأيضاً الولايات المتحدة شريك السعودية الأول خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالتنسيق الأمني والسياسي فضلاً عن الاستثمارات والتجارة بين البلدين.
فالسعودية تمتلك قدرة على تحويل المواجهة إلى تفاهم وتعاون خصوصاً وأنها تمتلك رؤية تحويل الشرق الأوسط إلى شرق أوسط أوروبي وأخضر، وهي أكبر نمو اقتصادي في العالم نحو 9.5 في المائة، ونسبة التضخم لديها لا تتجاوز كثيراً عن 2.5 في المائة، وتجاوز ناتجها المحلي تريليون دولار، ومدت يدها لتركيا التي ارتفع التضخم فيها إلى 80 في المائة، وانخفضت عملتها من 2.92 مقابل الدولار عام 2016 إلى 18 ليرة مقابل الدولار حالياً، وكذلك إيران التي انخفضت العملة الريال الإيراني 3300 ألف مرة منذ الثورة الخمينية إلى 332 ألف ريال مقابل الدولار، وانخفض الناتج المحلي من 445 مليار دولار عام 2017 إلى 191 مليار دولار في 2021.
فالدول الإقليمية المجاورة للسعودية من مصلحتها الانضمام إلى رؤية السعودية الطموحة التي لم تتوقف نتيجة التحديات التي تتبناها هذه الدول ضد السعودية وضد الأمن العربي، بل تأثرت هي ولم تتأثر السعودية.