يقول تعالى : (وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا)، (النساء : 34)
هذه الآية الكريمة من سورة النساء أثير فيها الجدل في الآونة الأخيرة في الأزهر ومصر، ولنا فيها رأي نظن أنه الأصوب، فأغلب المفسرين يحملها على أن للزوج الحق في ضرب أو صفع زوجته بيده، وحتى بعض من يحاولون تخفيف المسألة وهو أن الضرب معنوي هنا مثل ما كان النبي يضرب أزواجه بالسواك وذلك لمحاولة تخفيف المسألة، بينما اضربوهن في الآية الكريمة من سورة النساء ليس لها علاقة بالضرب بمعنى الصفع أو غيره، سواءً بالسواك أو يده، بل ليس لها علاقة بذلك المعنى لا من قريب ولا من بعيد وإنما (اضْرِبُوهُنَّ) في الآية المباركة لها معنى آخر قد تم تجاهله من أغلبية المفسرين والعلماء، لذلك إذا أردنا أن نعرف معنى (اضْرِبُوهُنَّ) في سورة النساء لابد لنا أولاً أن ندرس ونتتبع مادة «ضرب» كلفظ ومصطلح وما يشتق منها من ألفاظ ومصطلحات أخرى في القرآن الكريم، وبحسب تتبعي وجدت أن مفردة «ضرب» ومشتقاتها وردت في القرآن الكريم بثلاثة معاني مختلفة عن بعضها البعض وليس لها علاقة ببعضها البعض :
- المعنى الأول : جاءت بمعنى التمثل وبيان المثال من قبيل قوله تعالى : (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (التحريم : 11)
أو في أواخر سورة يس : (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) (يس : 78).
- المعنى الثاني : جاءت بمعنى السفر والترحال من قبيل قوله تعالى (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأرض) (النساء : 101)، فالضرب هنا المقصود به السفر والترحال.
- المعنى الثالث : وهو نعم ربما نقول إنها جاءت بذلك المعنى وهو ذات الضرب في قوله تعالى (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ) (محمد : 4).
لكن حتى هذه الآية العلامة السعدي في تفسيره قال إن المراد منها ليس ذات الضرب إنما المراد منها القتل بشكل عام، وذلك لأن القتل بالعادة يكون عن طريق ضرب الرقاب، فالقرآن ذكرها مجازاً لبيان معنى القتل بشكل عام ، ومع ذلك لا بأس أن يكون معنى الضرب هنا هو ذات الضرب كمعنى ثالث، ولكن لو بحثنا أكثر عن المسألة في القرآن الكريم سنجد أنه حتى عندما جاءت مناسبة لذكر الضرب لم يستخدمها مع الذين ذهبوا للقتال بل اختار القرآن مصطلحاً آخر، فالقرآن عندما تكلم عن فئتين اثنتين من الناس الفئة الأولى سافرت، والفئة الثانية ذهبت للقتال، للوهلة الأولى والظاهر للحدس لو كانت مادة «ضرب» أو مشتقاتها سترد هنا ستكون منسجمة مع أي الفئتين أكثر؟، ظاهراً ستنسجم مع الذين ذهبوا للقتال لأنه يوجد ضرب بالسيوف والرماح وغيره، لكن القرآن الكريم لم يفعل ذلك فاستخدمها مع الفئة التي سافرت واستخدم مصطلحاً آخر للذين ذهبوا للقتال في قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إذا ضَرَبُواْ فِي الأرض أو كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ) (آل عمران : 156)، سنلاحظ في الآية الكريمة أن مادة «ضرب» جاءت في وصف الفئة المسافرة بينما الذين ذهبوا للقتال استخدم مصطلح «غزا» يعني الذين ذهبوا للغزوة والقتال، هنا يأتي سؤال مهم، وهو إذا كان الحال كذلك فنحن لدينا ما لا يقل عن ثلاثة معاني مختلفة لمفردة «ضرب» وما يشتق منها في آيات القرآن الكريم، لماذا عندما وصل الأمر إلى سورة النساء أصبحت لا تحتمل إلا معنى واحد فقط وهو ذات الضرب؟ ما هو السر في ذلك؟، لأن مفردة «ضرب» في سورة النساء لها معنى آخر لم يلتفت إليه المفسرون أو التفتوا وتجاهلوه، ولكن قبل أن أبين المعنى الحقيقي لمفردة «ضرب» أو «اضْرِبُوهُنَّ» في سورة النساء سأورد آية من سورة البقرة لعلها تكون كاشفة وتساعدنا على تبيان المعنى الحقيقي لـ «اضْرِبُوهُنَّ» في سورة النساء، يقول تعالى : (الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أو تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) (البقرة : 229)، والآن سنبين معنى «اضْرِبُوهُنَّ» في سورة النساء قال تعالى : (وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ) (النساء : 34)، المرأة الناشز هي التي تعصي أمر زوجها وخارجة عن طاعته، ما هو التصرف الصحيح الذي يأمرنا به القرآن في هذه الحال؟، في المرحلة الأولى قال تعالى (عظوهن) يعني بالنصيحة والكلام وهذا يكون ليس بالصراخ أو رفع الصوت، لا بل يكون بما قاله القرآن عن الموعظة في آية أخرى (بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ)، فإذاً هذا الحل الأولي لم ينفع معها وما زالت لا تطيع، نطبِّق المرحلة الثانية وهي (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ)، يعني أن يترك لها الغرفة ويذهب لينام في الصالة أو مكان آخر لكي تختلي المرأة بنفسها وتراجع حساباتها وهذا حق لها ، لكن للأسف بعض المفسرين - غفر الله لهم - فسروها بمعنى العقاب وقالوا أشياء لا تليق يقولون لأن المرأة لا تستطيع أن تصبر عن ممارسة الجماع فهذا الشيء عقاب لها إلى أن تعود لرشدها، طبعا هذا الكلام غير صحيح لأن المراد بـ (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ) ليس عقاب لها، إنما خلوة مع نفسها لكي تفكر وتراجع حساباتها وهذا حق من حقوقها، فإذا لم تنجح مرحلة الحل الثانية، القرآن يعطينا حلاً ثالثاً وهو «اضْرِبُوهُنَّ»، واضربوهن هنا ليس معناه أن يصفعها، بل المقصود به تسريحها لبيت أهلها ، فـ «اضْرِبُوهُنَّ» هنا تصبح سفروهن أو سرحوهن، وبالأصل إذا أخذناها بمعنى الضرب والصفع تكون خارج سياق الآية الكريمة، لأن الآية من بدايتها تعطينا تعاملاً راقياً مع الزوجة أولاً بالكلام والنصيحة، وثانيا بالخلوة لكي تفكر وتراجع حساباتها، فعندما تفسر بعد ذلك على أنها ضرب باليد أو سواك أو غيره خارج سياق الآية، فالآية هنا لا تعطي للزوج أن يعاقب زوجته هذه ليست للعقوبة، إنما حقوق للزوجة يجب على الزوج أن يحفظها في حال أن المرأة اختلفت معه في الرأي ولم تطعه، وأيضاً في الطلاق الذي من المفترض أن يكون أكبر المشاكل وهو كما هو معلوم أبغض الحلال إلى الله، لم يعط للزوج الحق في أن يمد يده على الزوجة بل أعطاه خيارين اثنين فقط (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أو تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)، إذاً في الطلاق لم يعطه الحق في أن يضربها، فكيف يأتي في سورة النساء في مسألة تحدث بشكل طبيعي في كل أسرة يجوز له أن يضربها؟، بالإضافة إلى أن ذلك يخالف ما نعرفه عن سماحة الشريعة المحمدية، فالنبي - عليه الصلاة والسلام - ليس فقط أمرنا بعدم صفع البهائم والحيوانات، لا لا بل أكثر من ذلك كان ينهى عن أن يتم حد السكين أمام عين الذبيحة، فهذا الرسول العظيم الذي كان يهتم بنفسية البهيمة التي ستذبح بعد قليل بحيث ينهى الذباح عن حد سكينة أمام عينها، كيف يتي في القرآن ويجوِّز لنا أن نضرب أزواجنا؟.