في طرح فكري فلسفي يتساءل العالم الكبير الدكتور مصطفى محمود مستنكراً، متى نفهم أن الرجولة هي الجلد على العمل وحمل المسؤولية والصمود للعقبات الجسام والبطولة في الميدان وفداء الأوطان، وأن المجد الحقيقي ليس مكانه مخادع الغواني وإنما المعامل والمصانع والحقول وميادين القتال؟!
العالم الجليل كان ملماً بشكل كبير بأمراض المجتمع المعاصر وأنماط الشخصيات التي أصبحت تفتقد إلى معان وقيم الرجولة.
ذكرت في مقالي السابق بعنوان «حقاً الرجال مواقف» هؤلاء الذين أصفهم بأنهم عمالقة في الكلام وأقزام في الأفعال، وفي بعض المفاهيم الاجتماعية الخاطئة يختزلون الرجولة في الفحولة الجنسية، وربما في بعض المجتمعات الأكثر تخلفاً يعتقدون أن الرجولة هي مجرد قوة بدنية والقدرة على التجبّر، والبعض يفسّرها بالقوة والشجاعة، لكن معنى الرجولة الحقيقي هو ما ذكره الله في قوله تعالى في سورة فصّلت: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}. أعلم أن البعض يقرأ هذا المقال ويندهش من العنوان الذي يخلق تساؤلات في خلجات نفسه، أولاً: هل نفقد مصانع الرجال؟! وكأن قلمي سمع هذه التساؤلات وسأجيب عليها.
نعم، كثيرون من الذكور في مجتمعنا يفتقرون العديد من قيم ومبادئ الرجولة، وأن مؤشراً خطيراً مضاداً لكل سبل النمو الاجتماعي، وأعتقد أن الرجولة هي قوة الإرادة والقدرة على تحمّل المسؤولية بكل ما تحمله الكلمة من معني، وتتمثَّل في رأي سديد، وكلمة طيبة، ومروءة وشهامة، وتعاون وتضامن. هناك فرقٌ بين الرجل والذكر، فكل رجل ذكر، وليس كل ذكر رجل، ما أكثر الذكور لكن الرجال منهم قليل، ولقد جاءت كلمة ذكر في القرآن الكريم غالباً في المواطن الدنيوية التي يجتمع فيها الجميع، مثل توزيع الإرث وما أشبه ذلك، أما كلمة رجل فتأتي في المواطن الخاصة التي يحبها الله تعالى، ولذلك كان رسل الله إلى الناس كلهم رجال قال تعالى في سورة يوسف: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً}. إلى جانب قوله تعالى في سورة النور: {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}، أي أن الرجولة هي الترفّع عن الملهيات والتشبث بأركان الإسلام اتقاء يوم عصيب تتبدل الأرض غير الأرض والسماوات، ومن أبرز صفات الرجولة في الإسلام هي تحمّل المسؤولية والنصح في الله، والدفاع عن أولياء الله وفقاً لقوله تعالى في سورة القصص: {وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ}، وهنا تتضح قيم الرجولة في بلاغة المعنى، وما جاء يمشي بل جاء يسعى لماذا؟ دفاعاً عن أولياء الله والدعاة إلى دين الله.
نعم، نفتقر إلى مصانع الرجال، فالآباء الذين يغرسون في أبنائهم روح الأنانية والطمع والاتكاء على غيرهم فهم مصنع فاسد للرجولة، والمعلمون الذين يبثون في طلابهم روح الابتزاز ليسوا بمصنع للرجولة، والأفكار الانبطاحية التي تنشر النفاق مضادة لكل مبادئ الرجولة ... لذا فمجتمعاتنا تعاني من أزمة صناعة الرجال.
ثمرات الفكر:
الرجولة، هي أن تتحدث بما يمكنك فعله، وتفعل بما تقول، هي أن تكون كالصخرة التي تتحطّم فوقها هموم الأنثى.
التفسير البيولوجي للفرق بين الرجل والمرأة معروف، ولكن القياس الحقيقي للرجولة هو الفعل، فالرجل يتحدث أكثر مما يفعل، وأشباه الرجال عمالقة في الكلام وأقزام في الأفعال ... وأعتقد أننا سنمتلك عالماً أجمل إذا تحلَّى غالبية الذكور بأخلاق الرجال «الرجولة» وتحلَّى غالبية النساء بالأنوثة ولكن هيهات هيهات هيهات!
وللحديث بقية ...
وللأفكار مرات ... ما دام في العقل كلمات وفي القلب نبضات ...ما دام في العمر لحظات!