في الندوة الثقافية التي كانت ولا تزال تُعدّ من أهم معالم مدينة الرياض التي كان يستضيفها مساء كل أحد في منزله العامر في حي عليشة الدكتور راشد المبارك العالم والمفكر والأديب والشاعر السعودي الكبير -رحمه الله، كان أول لقاءٍ جمعني بالفقيد الكبير الإنسان النقي الأستاذ عبدالله بن عبدالرحمن البراهيم -رحمه الله. كان ذلك قبل ما يقرب من ثمانية وثلاثين عامًا. فاجأني -رحمه الله- بلطفه واحتفائه الغامر بي وكأنه يعرفني منذ زمن بعيد. كان ملفتاً للنظر في أناقته وتصرفاته وحديثه. ثم تتابعت لقاءاتنا في أحدية الدكتور راشد المبارك -رحمه الله- وفي مناسبات اجتماعية أخرى ولم يمر وقت طويل حتى توطدت العلاقة بين أسرتينا وأصبحنا صديقين حميمين.
كان وطنياً غيوراً على المصالح العامة كارهًا للفساد بكل أطيافه. وكان صاحب خبرة عميقة وطويلة في الإدارة. تولى مناصب مهمة في الدولة كان من ضمنها مساعد المدير العام للمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية والمدير العام للشؤون الإدارية في وزارة الداخلية ثم المدير العام للمتابعة والاتصالات في وزارة الداخلية.
كان -رحمه الله- من أنبل وأنقى وأصدق من عرفت. كان صاحب خلق رفيع متحلياً بكمّ هائلٍ من التواضع واللطف ومكارم الأخلاق. كان صاحب حس إنساني رقيق يحنو على الضعفاء ويعطف على أصحاب الحاجات. وكان كريمًا بخلقه وجاهه وماله، ولذلك كان منزله منهلاً عذباً لأقاربه وأصدقائه وكل وافد إليه.
كان مثقفاً عالي الثقافة وصاحب ذوق رفيع في الشعر والأدب. وكان صاحب رأيٍ حرٍ مستقل لا يتردد في التصريح به والدفاع عنه. كان غيوراً على القيم والمبادئ وحريصاً كل الحرص على أن يحافظ المجتمع عليها.
لا أعلم أنه دخل في خصومة مع أحد ولا حمل في قلبه ضغينة لإنسان، فقد كان كتلة من الطيبة والسلام والمحبة ونقاء المشاعر. تعرض لوعكة صحية لسنوات عديدة أفقدته القدرة على الحركة والتحدث بوضوح فتقبلها راضياً صابراً محتسباً -رحمه الله. لم يشتك ولم يتضجر بل كان يشعر كل من يزوره بأنه في أحسن حال.
أنعم الله عليه بزوجة صالحة من كريمات نساء المملكة شاركته أفراحه وأتراحه وتحملت معه خلال سنوات مرضه الطويلة ما تنوء بحمله الجبال. لم تفارقه في أي وقت على الاطلاق وهيأت له كل ما يمكن تهيئته من أسباب الراحة والعناية الطبية، وشرّعت أبواب منزلهما العامر لجميع أهله وأحبابه وأصحابه إلى جانب إدارتها لأعماله ومصالحه باقتدار منقطع النظير. أسأل الله عز وجل ألا يحرمها أجر عنايتها به ووفائها له وصبرها على ما أصابه، ولا يساورني شك في أن مواقفها معه ستدوّن ضمن أجمل ما سيدون في التاريخ من الوفاء.
رحم الله أخي وشقيق روحي أبا سامي، وتغمده بعفوه وكرمه وإحسانه وأنزله منازل الصديقين والشهداء والصالحين وجمعنا به في جناته، وأحسن عزاءنا وعزاء رفيقة دربه وشقيقة روحه وجميع ذويه ومحبيه ولا نقول إلا ما يرضي ربنا: {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
رحلتَ وقلبي مُذْ رحلتَ عَليلُ
فَيَا لِشجُونٍ ما لَهُنّ مَقيلُ
رحلتَ أبا سامي على حينِ غِرَّةٍ
ولم يُشْفَ في قلبِ المُحِبِّ غَليلُ
رَحلتَ وقد أضنى الضّلوعَ تشتّتٌ
فأصبحَ في جَّوفِ الرّحيلِ رحيلُ
لقد كنتَ رغمَ البُعدِ نوراً وبَهجةً
وأنُسَاً إذا حِملُ الصُّرُوفِ ثقيلُ
وكنتَ سَنَاً في المُوحِشَاتِ وبَلسَمَاً
وقَطرَ ندىً حَيث الزّمانُ بخيلُ
وكنتَ حِجاً فينا ومَنهَلَ حِكمةٍ
إذا ضاقَ دربٌ للحِجَا وسَبيلُ
جَمعتَ من الأخلاقِ كلَّ فضيلةٍ
فأنتَ لها بينَ الأنامِ دليلُ
رحلت أبا سامي وطيفُكَ حاضرٌ
وذكرُكَ في كُلِّ القلوبِ جليلُ
عليكَ سَلامُ اللهِ ما لاحَ بارقٌ
وما انسابَ في جَوفِ الظلامِ هَديلُ
وما كويت من نَارِ فَقدِكَ أنفُسٌ
وفاضَ بها شوقٌ إليكَ أصيلُ
فمثلُكَ مَنْ تَدمى القلوبُ لفقدهِ
ومِثلُكَ إن عُدَّ الكِرامُ قليلُ
** **
- د. أحمد بن عثمان التويجري