عبدالوهاب الفايز
هل كان أجدادنا بحاجة إلى حشد الخيال لمعرفة ماذا يعني شح الماء في الصحارى، كما نفعل الآن؟
هذا السؤال يفرض حضوره حينما نعرف أن 79 بالمئة من السكان في المملكة (35 مليون نسمة) يصلون حاليًا إلى مياه الشرب بيسر وأمان، وبتكلفة مدعومة معقولة، ومتوسط استهلاك الفرد من المياه في المملكة يبلغ 263 لترًا يوميًا، وهذا يضعنا في مرتبة متقدمة عالميًا، وخوفًا من العطش نجتهد لخفضه إلى 150 لترًا في عام 2030.
بحبوحة المياه هذه نعمة نتذكرها جيدًا، وأيضًا يدهمنا الخوف حين نرى التهديد المستمر لمصادر المياه من جراء تقلبات المناخ والاستهلاك الجائر، وهذا الصيف أغلبنا رأى بعينيه كيف جفت الأنهار والبحيرات في بلاد الأمطار، وجاء في الأخبار أن فرنسا لأول مرة تبحث إعادة تدوير المياه.
عبث الإنسان بالأرض لن يمر بسلام، وتوحش الرأسمالية النهمة للنمو يستنزف قدرة الموارد الطبيعية على تلبية احتياجات البشر من الماء والكلأ. وهذا يتطلب الاستعداد لإدارة قطاع المياه في المملكة بما يحفظ لنا مواردنا المائية، ويرفع كفاءة التشغيل والاستخدام.. سواءً في القطاع السكني أو الزراعي أو الصناعي.
هذا الاستعداد نرى مؤشراته كل يوم، ففي السنوات الماضية عملت الحكومة على إعادة هيكلة قطاع المياه، ويتم ذلك عبر إستراتيجية واضحة، ومكرس لتنفيذها الجهد والموارد. وتنفيذ الإستراتيجية في قطاع المياه، حقق إنجازات تستحق التقدير والثناء بالذات في قطاع التحلية حيث التحديات العديدة، البيئية والاقتصادية والفنية التشغيلية. فالنجاح الذي حققناه في الأربعين عامًا الماضية رفع الإنتاج ليصل إلى 8 ملايين متر مكعب يوميًا، أي ما يقارب 42 بالمئة من الإنتاج العالمي، وهذا يجعلنا المنتج الأول في العالم للمياه المحلاة.
لمواجهة التحديات.. واستعدادًا للمستقبل ولتطوير الخبرة الفنية، أسعدنا تنظيم المؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة هذا الأسبوع (مؤتمر مستقبل التحلية الدولي) والذي يستهدف استكشاف الابتكارات الجديدة في تحلية المياه لمواجهة تحديات رئيسة مثل: خفض تكلفة تحلية المياه إلى 1.2 ريال للمتر المكعب تقريبًا. وتحدي خفض انبعاثات الكربون الناتج من هذه الصناعة بنسبة 50 بالمئة، مع التحدي الأكبر وهو: زيادة نسبة تدفقات الإيرادات غير المائية إلى 10 بالمئة من إجمالي تكلفة التحلية. هذه التحديات لن يستطيع قطاع المياه مواجهتها لتعدد مصادر التهديد للثروة المائية.
ثمة حقائق مخيفة للوضع المائي في المملكة: الآن تستهلك الزراعة 58 بالمئة من مصادر مياه غير متجددة (مع نسبة هدر بحدود 03 بالمئة)، والطلب الإجمالي المحلي يصل إلى 52 مليار متر مكعب سنويًا وبنسبة زيادة سنوية قدرها 7 بالمئة، و56 بالمئة من احتياجات القطاع المدني تأتي من 27 محطة تحلية مكلفة، ولا ننسى ضعف كمية المياه المعالجة، واستمرار معدلات التسربات الشبكات عند حدود 52 بالمئة على الرغم من الجهود الكبيرة للسيطرة عليها، مع ضعف الالتزام والتطبيق لمواصفات وتقنيات ترشيد المياه، سواء في الأماكن العامة أو الخاصة.
قطاع التحلية في سباق مع الزمن لرفع كفاءة التشغيل، وهذا أمر سيادي استراتيجي ووجودي لأن له تأثيره المباشر على استقرار بلادنا، وعلى الحفاظ على مواردنا النفطية والمالية، وأيضًا له أثره المباشر على البيئة. محطات التحلية تستهلك كمية عالية من النفط، كما أن المحطات القديمة لها أثرها السلبي على البيئة البحرية، وهذا تطلب الاتجاه إلى المحطات الحديثة عالية التكلفة، والاتجاه إلى (المحطات العائمة).
في هذا السياق هناك أخبارٌ سارة: أخيرًا وفي إطار إستراتيجية المياه دشنت المملكة أكبر (محطة عائمة) لإنتاج المياه المحلاة، وهي الأولى في هذا المشروع والهدف: تعزيز الأمن المائي، وتخفيض تكاليف إنتاج المياه بنحو 70 %، مع تنويع مصادر إنتاج المياه المحلاة. ومشروع المحطة الجديدة تم في إطار التعاون بين المؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة والشركة الوطنية السعودية للنقل البحري لإنشاء 3 محطات عائمة لتحلية المياه بسعة إجمالية 150 ألف متر مكعب يوميًّا.
طبقًا للمعلومات على موقع المؤسسة، تصميم المحطة بُني على (سهولة نقل البوارج، وفق احتياجات المناطق على مستوى المملكة، والاعتماد على تقنيات صديقة للبيئة وداعمة لأمن الحياة البحرية، والمحطة مزودة بمزرعة ضخمة من الألواح الشمسية بغرض تقليل الاعتماد على النفط في تشغيل البوارج. وتعتمد المحطة الجديدة على تقنيات متقدمة ورائدة لتصفية ومعالجة مياه البحر، وكمرحلة لاحقة للمعالجة تأتي مرحلة التناضح العكسي لفصل المياه عن الأملاح والمعادن الأخرى، ومن ثَم تُضخ المياه المُحَلاة من المحطة إلى خزانات المياه باستخدام تقنيات حديثة عبر أنابيب مرنة. تكلفة مشروع المحطات الثلاث العائمة لتحلية المياه تقدر بـ760 مليون ريال سعودي، ويكتمل المشروع نهاية هذا العام 2022).
هذه المحطات سوف تضمن استمرارية وفرة المياه المحلاة بمستويات عالية، وتعزز مسار الابتكار، مع توطين التقنيات الحديثة، وتوفير فرص عمل للشباب السعودي، إضافة إلى تحفيز قدرات القطاع الصناعي في المملكة وتعظيم مساهمته في القيمة المضافة الإجمالية.
هذا المشروع يجدد ريادة المملكة في قطاع التحلية ويجعلنا نطمئن على مستقبله، ويؤكد نجاح المؤسسة في الهيكلة وتأسيس (ذهنية جديدة) تتبنى التقنيات الحديثة في الصناعة، وقد حققت المؤسسة قفزة نوعية في التشغيل حيث سجلت رقمًا قياسيًا لأقل محطة تحلية استهلاكًا للطاقة في العالم، وحققت أعلى طاقة إنتاجية للمياه المحلاة في العالم.
أيضًا حققت إنجازًا بحثيًا وتشغيليًا جديدًا وهو زيادة كميات المياه المنتجة من وحدة التحلية في مدينة ينبع بنسبة تصل إلى 5 % يوميًا من دون تكلفة جديدة، وبجهود كوادر المؤسسة في قطاع الإنتاج بالتعاون مع الذراع البحثي للمؤسسة (معهد الأبحاث وتقنيات التحلية).
إنجازات تفخر بها بلادنا.. في قطاع حيوي لأمننا واستقرارنا.