م.عبدالمحسن بن عبدالله الماضي
1 - منذ تجريم (سقراط) والحكم بإعدامه تحت مبررات فكرية تتحدى السائد في زمنه، والمفكرون في كل الأزمنة وكل المجتمعات يواجهون ذات الإشكالات في صدامهم مع القوى المسيطرة في مجتمعاتهم.. لكن هل حدث الصدام فقط بسبب أفكار هؤلاء المفكرين ورفض أفراد المجتمع للتغيير أم أن هناك أمرا آخر؟ فكثير من تلك الأفكار التي واجه مفكروها مقاومة مجتمعاتهم لها أفكار لأوزنها لا يمكن أن يحيط بها العامة، ناهيك عن أن تستثيرهم وتستنهضهم لعقاب ذلك المفكر صاحب تلك الأفكار.
2 - التاريخ يذكر أن أغلب المواجهات التي تمت مع المفكرين كانت بسبب مفكرين آخرين يختلفون معهم، أو سياسيين لا يريدون لتلك الأفكار أن تشيع، أو شخصيات بارزة في المجتمع على خلاف شخصي مع هؤلاء المفكرين.. فالعامة المحتجون لم يكونوا سوى رعاع ساروا مع القطيع بعد ما تم تأليبهم وإيهامهم أن تلك الأفكار الشيطانية التي قال بها ذلك المفكر تدعو لتدميره وليس لرفاهيته، وتحث على سجنة وليس لإطلاق حريته، وأن تلك الأفكار ضده وضد أبنائه ووطنه، وهكذا.
3 - لكن لماذا يؤلب المفكر على مفكر آخر.. هل لأنه قال بفكرة سبقه إليها أو فكرة لم تعجبه أو لم يقتنع بها؟ فهذا صعب التصديق أو الاستيعاب.. ثم لماذا بعض الأفكار لم يتعرض أصحابها للأذى رغم أنها أقوى وأقسى من غيرها التي تعرض قائلها للإقصاء والإبعاد وربما القتل؟ في ظني أن السبب اتصالي في شقه الأكبر.. وأقصد بذلك أن شخصية المفكر أحياناً تكون صدامية فيخلق له أعداء سواء من المفكرين الآخرين أو غيرهم.. أو تكون شخصيته مترفعة متكبرة لا تحترم العامة ولا ترى لهم قدراً فيتعامل معهم في رده عليهم بنزق ويستفزهم.. أو يكون أسلوبه في عرضه لأفكاره حدياً لا يرى أن هناك مساراً آخر موازياً أو مقارباً أو مشابهاً لأفكاره، فهو يقلل من كل فكرة غير فكرته.. أو أنه يرى أن أفكاره يجب أن تطبق فوراً، وعلى الجميع نسف كل الأفكار الأخرى دون مراعاة للمصالح وبلا مرونة تسمح بالفهم والاستيعاب حتى يتم التطبيق.. أو أن فيها تحدياً حقيقياً لمصالح آخرين متنفذين كان يفترض أن يحذر منهم .. الذي أريد أن أقوله إن المشكلة ليست دائماً في العامة أو المفكرين أو الساسة، فأحياناً (وأنا أقول كثيراً) تكون المشكلة في المفكر ذاته وليس فكرته.
4 - ولو أردت أن أضرب مثلاً على ذلك لأخذت (الدكتور عبدالله الغذامي) و(الشيخ إبراهيم البليهي) وكلاهما مفكر كبير في مجاله.. فالأول (الدكتور عبدالله) بدأ النشر في عز فورة الصحوة، وكان يصارع تياراً متحكماً قوياً مهيمناً على المشهد العام بتعليمه وإعلامه وثقافته.. لهم القول الفصل في كل ما يُنْشر ويُبَث ويُقال ويُلقْى على كل المستويات التعليمية والثقافية.. لكنه استطاع أن ينشر ويحاضر ويستمر حتى أصبح اليوم أيقونة الفكر السعودي المعاصر، ولا يجرؤ أن يتكلم في حقه أحد لأنه يعرف أن المجتمع بكليته سوف يرد عليه.. هنا (الدكتور عبدالله) هو نموذج عالٍ للمفكر الذي دعم جودة إنتاجه بجودة اتصاله.. يأتي في المقابل (الشيخ إبراهيم البليهي) صاحب الأولويات الفكرية على المستوى الإنساني وليس العربي فقط.. مثل دراساته عن عبقرية الاهتمام، والعقل التلقائي، والريادة والاستجابة، وعلم الجهل.. وغيرها.. هذا المفكر الكبير لديه مشكلة اتصالية عميقة تمثلت في ردوده المستفزة على الأسئلة التي لا تروقه، وجلده للذات العربية والإسلامية، مع تمجيده للغرب وعلومه وحضارته.. كل ذلك استعدى عليه الجميع.. وهو لا يتوانى ولا يتردد في أن يقول في وجه أياً من كان: أنت جاهل، أو أنك لا تفهم وأن جهلك مركب.. إلخ.. فكيف سيتعامل مثل هذا المفكر مع العامة ناهيك عن الخاصة الذين يرون في أنفسهم أنهم نخب؟
5 - هذه المقالة ليست لتقييم المُفَكِّرَين السعوديين الكبيرين، وإنما اتخذتهما نموذجاً لما عنيته حينما قلت إن ما تعرض ويتعرض له بعض المفكرين من عنت ليس بسبب أفكارهم فقط، بل بسبب مشاكل في تواصلهم مع الآخرين.. فمهارة الاتصال أساسية في إيصال الأفكار.. أيضاً لا أريد أن يُفْهم أن ما وصل إليه (الدكتور عبدالله) إنما هو بسبب مهاراته الاتصالية ولين طبعه وإنسانيته العالية فقط.. فهو بما لديه من نتاج أثبت نفسه بما يتجاوز أي تقييم مني أو من غيري.. كما أنى لا أقصد أن ضعف (الشيخ إبراهيم) الاتصالي حد من جودة إنتاجه وريادة فكره، لكني أقول إنه لا شك حد من سعة وصولة وشيوع أفكاره بين الناس.
6 - نحن اليوم في المملكة في مرحلة بناء الحضارة السعودية وفي حاجة إلى كل القوى الفكرية المتاحة للمساهمة في بناء حضارتنا المنشودة.. ولا شك أن الفكر هو القوة الأقوى من بين كل القوى الناعمة.