د. محمد بن إبراهيم الملحم
استمراراً في الحديث عن خدمات التغيير المساندة (الترويج - التدريب - التقييم) أتحدث اليوم عن التقييم Evaluation ودوره المفصلي المهم في «صيانة» التغيير فهو مثل الأجهزة الكاشفة التي تكشف لك التسرب في المياه أو الخطأ في التوصيلات الكهربائية، فتقوم فورا بصيانة المبنى وتحافظ عليه من التلف، ومتى كان كشفك للمشكلات مبكرا كانت معالجتك أسهل والتحسن الذي يحدث للمبنى أفضل، والأمر نفسه مع التقييم كعنصر صيانة مهم جدا لعمليات التغيير، وسبب هذه الأهمية أن التغيير في غالب الأحيان احتمالي النزعة contingent ويُبنى اعتمادا على تصورات نظرية وآراء شخصية، ومع أن هذه الآراء تصدر من أصحاب خبرة طويلة وتستقي من تجربتهم وفكرهم، كما أنه يرتكز في كثر من الأحيان على مبادئ ونظريات ذات قيمة كبرى في علم التربية وأدبيات التعليم إلا أنها تظل رؤية إنسانية قابلة للخطأ بنسبة كبيرة، فليس سياق التعليم مثل سياق الهندسة أو الطب مثلا حيث تقوم بإجراء تغييري ينقلك من استخدام طريقة مقننة إلى طريقة أخرى مقننة أيضاً ولكنها أفضل وتحقق مصالح جديدة، فهناك يتم اتباع العلم القائم على البرهان evident-based science والذي تم تقنينه في نماذج وطرق أصبحت تمثل قواعد أساسية للممارسين يجب عليهم اتباعها وهو ما يطلق عليه عادة اتباع ما هو في الكتاب Go by book ولكن في العلوم الإنسانية: التربية والتعليم والإدارة والموارد البشرية والخدمات الاجتماعية وأمثال ذلك فهي ليست علما محضا تصاغ له القوانين كما تصاغ للآلات والأجهزة أو لميكانيزم أجهزة جسم الإنسان وإنما هي أسس وقواعد ثبتت صحتها عبر تجارب ورصد متكرر وبالتالي فإن دقتها هي باحتمالية في حدود90 % إلى 95 % ولكنها لن تكون 100 % كما هو حال التطبيق في المجالات الهندسية والطبية حيث نسبة الخطأ لا تتجاوز 1 % والصواب 99 % على الأقل.
ومن هذا المنطلق كان التعامل مع جوانب التربية والتعليم محتاجا إلى التقييم على الدوام، ولا يستغنى عنه إلا في الجوانب الشائعة فمثلا لا نحتاج إلى تقييم أنه إذا تم تدريب المعلمين على حسن التدريس وإتقانه فإن أداء الطلاب واستيعابهم سيتحسن! فهو نتيجة بدهية مجربة، ولكن في حالات «التغيير» فإن التطبيق يكون جديدا وليس شيئاً شائعاً، بل يحوي متغيرات كثيرة طارئة مما يجعل تقييمه عنصراً أساسياً لا يمكن الاستغناء عنه، وعندما ترى تغييرا تم تنفيذه دون تقويم بنتائج معلنة يتم على ضوئها تطويره وإنما نفذ مرة واحدة ليظل كما هو تحت فرضية أنه «صح» و»كامل الأوصاف» على طول الخط، فاعلم أن تلك الممارسة التغييرية فاشلة ولا تقوم على أساس علمي، وإني أتساءل معكم وقد رأينا ذلك يتكرر كثيراً في مؤسساتنا، متى تنتهي هذه الممارسة وكيف؟ شخصيا أعتقد أن الإجابة تكمن في ضرورة وجود هيئة مستقلة ترعى الجودة النوعية في العمل الحكومي وشبه الحكومي وكذلك في القطاع الثالث أو غير الربحي، بحيث يكون دورها هو التقييم المستمر وتقديم التقارير النوعية حول الخدمات العادية بالإضافة إلى التقارير التقويمية الشاملة حول البرامج والمبادرات الجديدة، وهذه الجهة تنشر تقاريرها للاطلاع ليسهم ذلك في تحفيز كل من يقدم خدمات أو برامج جديدة أن يسعى لتأكيد الجودة وصحة الإجراء ومطابقته لأفضل الممارسات ما أمكن إلى ذلك سبيلا، بدون ذلك في نظري فإن كل جهة ستستمر في أسلوب «التجارب» والتي يكون ضررها غالبا أكثر من نفعها خاصة إذا لاحظنا غياب فكر المؤسساتية Institutionalization وعدم وجود تنظيم يرعى هذه الممارسة المهمة للحفاظ على الموارد والطاقات فكثيرا ما يمضي مسؤول ويعقبه آخر ليترك ما كان في العهد السابق ويبدأ من جديد دون رقابة تضمن الحفاظ على الموارد وما بذل من الجهود، وإني أعتقد أن هيئة مثل هذه ستتمكن من خلال دورها التقويمي المستمر أن تتبع مثل هذه الممارسات وتقدم تقارير «محرجة» عن توقف مبادرات كانت ناجحة أو في طريقها للنجاح ... ترى هل يمكن أن يحدث هذا الأمر لدينا يوما ما؟ أتمنى ذلك، ولحديثنا الأساس بقية.