سليمان الجاسر الحربش
لو صادفت معادلة أحد طرفيها كل ما يخطر في ذهنك من مكارم الأخلاق من صدق وكرم ووفاء ومحبة وإخلاص وحس وطني جارف، ضع في الطرف الثاني وأنت مغمض العينين اسم حمود بن راكان السبهان، الذي انتقل إلى رحمة الله يوم الأحد الماضي.
حمود من الأسرة الكريمة المعروفة في حائل عرفه أصدقاؤه في المملكة والوطن العربي من خلال منزله المفتوح في الرياض والقاهرة ودمشق وبورتلاند اوريجون وتاكوما واشنطون وأخيراً لورنس كانساس والرياض حي الرحمانية وفي محطتيه الأخيرتين كان ضيفه المزمن المرض العضال الذي أقعده عن شؤون كثيرة أهمها مواصلة دراسته العليا.
كانت مكتبته العامرة بكل الثقافات نديمه الوحيد وسميرة أسرته المكونة من بناته الأربع وابنه الوحيد.
تفرق الصحاب منهم من رحل عن هذه الدنيا ومنهم من شغلته المهنة وصروف الأيام ومنهم من هاجر منه إلى غيره (بحثاً عن سعة في الرزق) ولم يبق للمرحوم إلا شعار أبي الطيب:
أعز مكان في الدنا سرج سابح
وخير جليس في الزمان كتاب
وأكرم به من جليس جمعني به (من بين أمور يصعب حصرها) منذ أن عرفته في أوائل الستينيات من القرن الميلادي الماضي في مدينة القاهرة.
التقينا للمرة الأولى في شقة المرحوم عبدالله البراهيم في ميدان الدقي وقد رثيت أبي سامي في عدد سابق من هذه الجريدة. كان لقاءً عابراً أعقبه لقاء آخر صدفة في ميدان طلعت حرب، كان يحمل في يده كتاباً قدمه لي بكل حماسة وهو يقول إنها مسرحية هنريك ابسن المعروفة بعنوان بيت الدمية، والحقيقة إنها لم تكن معروفة لدي فثقافتي في ذلك الوقت لم تتعدَّ ما درسته في مادة الأدب العربي سواء في اليمامة الثانوية أو معهد الرياض العلمي، وبعض الروايات المصرية ذات الطابع الرومانسي مثل أعمال محمد عبدالحليم عبدالله وأمين يوسف غراب ويوسف السباعي وقبلهم المنفلوطي.
انتحينا جانباً في أقرب مقهى أغلب الظن أنه مقهى ريش المعروف في شارع طلعت حرب المؤدي للميدان، طفق يحدثني عن المسرحية وما تنطوي عليه من علاقات مختلة بين الرجل والمرأة وبين الزوج والزوجة في ذلك الوقت، كان يتحدث وأنا منصت وكان بين الفينة والأخرى يؤكد أنه سيقرأها على «نمشه».
وعلمت فيما بعد أنها زوجته وأم بناته وابنه الوحيد، كان يناديها ويذكرها باسمها الأول وكأنه يستمد منها ما يحتاجه من طاقة.
في اليوم التالي ذهبت إلى أستاذ اللغة الإنجليزية في الكلية التي أدرس فيها وهو منتدب من قسم الأدب الإنجليزي بكلية الآداب (جامعة القاهرة) وعلمت منه أن المسرحية لكاتب وأديب نرويجي عمت شهرته الآفاق وأنها عرضت على خشبة المسرح الملكي في كوبنهاجن عام 1879.
وعلمت من الأستاذ أن النقاد اختلفوا في مغزاها لكنهم يجمعون على أنها تمثل تشريحاً ونقداً للمجتمع البرجوازي وما فيه من ظلم كان ضحيته نورا الزوجة في المسرحية، وأنها في مجملها تعني بحقوق المرأة وتعالج العلاقات المتفاوتة بين الزوج والزوجة تلك العلاقات التي تعطي الرجل كل الحقوق وتسلب المرأة من كل الحقوق والعهدة على ما سمعته من الأستاذ.
الذي علق بذهني بعد حديثي مع المرحوم ثم شرح الأستاذ هو الحماسة التي كان يتحدث بها عن بعض القيم الرفيعة التي تأكدت فيما بعد أنها جزء لا يتجزأ من شخصيته العفيفة النقية وفي مقدمتها رفع الظلم وتحقيق العدالة بين فئات المجتمع، تلك القيم التي لم تفارقه قيد أنملة طيلة حياته، قيم انتقلت منه إلى بناته وابنه الوحيد.
كنت أتمنى أن تتوطد العلاقة بيننا في تلك الفترة لكن الظروف السياسية السائدة في تلك الحقبة منعته من دخول الأراضي المصرية وعاد من مطار القاهرة مع صديقه ورفيق دربه المرحوم سعود الضبعان وبعض الزملاء والتحق بجامعة دمشق وتخرج منها. والتقيت به بعد عودتنا من الدراسة عام 1966 وكان اللقاء ثانية في بيت أبي سامي عبدالله البراهيم في مدينة الرياض.
هذه المرة كنت أقف على أرض ثقافية أكثر صلابة منذ أن لقيته في مقهى ريش منذ أربع سنوات. حدثته عن الحراك الثقافي الذي حدث في مصر بأمر من الرئيس الراحل جمال عبدالناصر لسد الفراغ العاطفي والسياسي الذي أعقب انفصال سوريا وفشل الوحدة بين القطرين. وشرحت له معالم هذا الحراك ومنه السماح بمساحة من الحرية الفكرية تمثلت في صدور بعض المجلات التي تولى رئاسة تحريرها رموز ثقافية بعضها عانى الأمرين في عهد النظام مثل لطفي الخولي ومجلة الطليعة، وأحمد عباس صالح ومجلة الكاتب، والدكتور زكي نجيب محمود ومجلة الفكر المعاصر.
حدثته عن امتداد هذا الحراك إلى المسرح وعرض بعض المسرحيات التي أثارت الكثير من اللغط بين النقاد ومنها مسرحية «الفتى مهران» للكاتب المعروف عبدالرحمن الشرقاوي ومسرحية السبنية لسعد الدين وهبه وغيرها. والقضية للطفي الخولي.
لم يكن المرحوم غائباً تماماً عن هذه الأحداث لكنه وجد فيها من المتعة ما جعله يستطرد عن أول لقاء بيننا ويسألني هل قرأت الثلاثية لنجيب محفوظ قلت نعم، انفرجت أساريره وبدأ يقارن بين نورا في مسرحية هنريك ابسن وبين أمينة في ثلاثية محفوظ وعلاقتها بسي السيد، ويبدو أن شخصية أحمد عبدالجواد وعلاقته بزوجته المستكينة وتلك العلاقة الموازية مع العالمة زبيدة ثم زنوبة قد احتلت حيزاً كببراً من تفكيره عن مواطن الداء في المجتمع العربي كله وهو البعد عن الصدق والانزلاق في متاهات الخيانة بدءاً بعلاقات الأسرة.
كان رحمه الله قارئاً فريداً صاحبته هواية القراءة منذ الصغر يروي قصته مع الشيخ حمد الجاسر في إحدى المكتبات في الرياض وهو صبي لم يبلغ الحلم عندما سأل البائع عن مختار الصحاح للرازي كان ذلك مصدر إعجاب مشوب بالدهشة من الشيخ حمد رحم الله الجميع.
كان يقرأ للعبرة والمتعة وتزجية الوقت
وقد وجد في أعمال نجيب محفوظ ضالته المنشودة إلى ما يحلم به من مبادئ فهو نصير المظلوم في شخص سعيد مهران في رواية اللص والكلاب وهو الخصم العنيد للظالم في شخص خالد صفوان في الكرنك ، وهو يتألم لفقدان الهوية عند عيسى الدباغ في السمان والخريف،كما يتعاطف مع المصير الذي تردى فيه محجوب عبد الدائم وهو يبحث عن مكانه في مجتمع تتنازعه الأهواء في القاهرة الجديدة.
وكان المرحوم يقرأ للمتعة، كنا نتقاسم الإعجاب والاحترام لنجيب محفوظ على تمسكه باللغة العربية الفصحى رغم أنه يكتب عن حواري مصر وأزقتها بعيداً عن أجواء القاهرة المخملية، كنا نقرأ في ملحمة الحرافيش أحد الفتوات يهدد أحد مناوئيه وكأنك أمام الأصمعي أو الجاحظ. في إحدى المرات قابلني في قهوة العويد في طريق خريص ملتقى من يرغب بعد العصر وفي يده نسخة من رواية ميرامار قدمها لي وهو يلقي عن ظهر قلب نصاً على لسان عامر وجدي الصحفي الوفدي المتقاعد يقول «إنما خلق القلم لأصحاب العقول والأذواق لا للمجانين المعربدين من ضحايا الملاهي والحانات «. وكان المرحوم يقرأ تزجية للوقت عندما حبسه المرض وانقطع الناس عن زيارته،كانت قراءاته متعددة، دخلت عليه قبل أن يفقد الذاكرة كان أمامه عدة كتب منها على سبيل المثال رسالة الغفران للمعري والاستشراق لإدوارد سعيد وديوان المتنبي وكليلة ودمنة.
رحم الله الفقيد الغالي وأسكنه وارف جناته، حاولت في هذه المقالة أن أنوه عن جانب من شخصيته لا يعرفها البعض ومعذرة إن أغفلت الكثير من مناقبه وشطراً من سيرته الذاتية، يكفي أنه كان رمزاً للفضيلة يبحث عنها في قلوب أصدقائه وبطون الكتب، كان يؤمن بوطن عربي تسود فيه المحبة والإخوة فتح قلبه ومنزله لكل من قصده، كان ضحية للأمراض وجور الروتين صمد أمام نوائب الدهر ومات منتصب القامة مرفوع الهامة لم يتخل عن قيمة آمن بها ولم يفقد أمله في مولد امة عربية موحده . كان نموذجا للزوج المخلص والأب المفعم بالرحمة والحنان ، زرع هذه الفضائل في قلوب بناته الأربع لطيفة ومنيرة وهيفاء وسلمى وابنه الوحيد محمد وكان قبل كل شيء نعم المواطن الذي شرف هذا الوطن الغالي قيادة وشعباً وحكومة.
ومني له جزيل الشكر والامتنان على نصف قرن من الصداقة الشريفة والمحبة الصافية.
وداعاً يا حمود، وداعاً أيها العزيز الغالي وداعاً ياعزوتي !! ما أروعها من كلمة تخرج من قلبك لكل من شربوا من منهلك العذب في كافة أنحاء الوطن العربي، كنت تعتزي بأمة بأكملها، لله درك كيف استطعت أن تظل واقفاً بهذا الشموخ.
أيها الصديق الذي قلما يجود به الدهر،
أيها الخليل الذي نأت بيني وبينه الأرض:
حسب الخليلين نأي الأرض بينهما
هذا عليها وهذا تحتها بالي.
هل تذكر هذا البيت هل تذكر كم مرة طلبت مني أن أنشده لك ونحن نتبادل التعازي في صديق العمر الراحل سعود الضبعان، سأنشده لنفسي ونيابة عنك إلى أن نلتقي !
«إنا لله وإنا إليه راجعون».