د. مسعد بن عيد العطوي
يكون الغموض في ذات المبدع والحراك الكوني والثقافة المتفاوتة ولغته ومخزونه اللغوي هذا التمازج يولد الغموض أثناء التوظيف الأسلوبي لكنه يختلف من مبدع إلى مبدع من عصر إلى عصر بحسب ما يطرأ، ولكل عصر تواجده في بنية الإبداع. فأدرك العلماء ظاهرة الغموض منذ توحيد الأمة العربية تحت رأية الإسلام وحملوا علمه والعمل به وتأملوا اللغة ودلالاتها وسياقاتها واختلفوا في تأويلاتها؛ فتجسد الغموض.
وعندما نتأمل الشعر الجاهلي؛ نجد أن الغموض يتأتى من بنية اللفظة، وسياقاتها، وضبطها، واشتقاقاتها، وما ينبعث من مضامين الحياة، وحراكها البشري، وكلها قابلة لكشف الغموض بالدليل والحجاج في قرب من المآخذ، والأمر تشكل أكثر فأكثر عند الصحابة الذين اعتنوا بتفسير القرآن حتى أنهم استدعوا الأعراب وسمعوا منهم ما يوضح معاني الألفاظ مما شجع على رواية الشعر الجاهلي وشرحه وأضحوا من أوائل المفسرين الذين حللوا الألفاظ وحروفها والقراءت فيها ليصلوا إلى تأويل الآيات ويستدلون على الأحكام الفقهية مما أوجد اختلافا في التفسير نتيجة الأوجه في تأويل الآيات. فأدرك العلماء الغموض في اللغة ومازال حتى يومنا هذا فالقرآن حمال أوجه.
وسارت القصيدة العربية جنبا الى جنب مع القرآن، وأخذت تنفذ عبر الأحقاب على جسر من اللغة التي تمثل سحرها الجمالي، وجسدها الذي يمور بالحركة، وينضح بالغنى والدلالة الوجدانية، والفكرية ذات العمق والجمال؛ إن اللغة الشعرية مركز الفتنة والحيوية، ومن هنا تشعبت مساراتها الفنية، واختلفت مؤطراتها اللغوية الأمر الذي جعل القصيدة العربية يرتوي منه كل وارد لها بما يحمله من اتجاهات، فأصحاب الكلاسيكية يتشبثون به، وأصحاب الواقعية يمجدونه، وأهل الفن للفن يقطفون من ثماره.
ونجمل أسباب الغموض في العصر الجاهلي والإسلامي:
- بنية اللغة من حيث اللفظة في فصاحتها واشتقاقها وحروفها واثقال دلالتها.
- التراكييب وسياقاتها.
- الدلالة والإيحاء.
- الصور وتقاربها وتباعدها وغرائيبيتها.
- ضبط الحروف.
- الغرابة في الألفاظ ومنها الاشتقاق والدخيل والمعرب، وقد تكاثرات مع اندماج الحضارات في العصر العباسي في الألبسة والأطعمة وقضايا كثيرة.
- التشابه في المفردات، وتباعد المضامين كالمشترك والتضاد، وعدم مباشرة المعنى وأثر الإسلام كثيرا في بنية اللغة وتحول دلالتها، و كثافة الدلالة في الآيات واختلاف القراءت واللهجات.
- وتلك تجعلنا نؤكد وجود نظرية الغموض النقدية العربية ومن استخدام الكلمة في اللغة، وحدوثها في اللسانيات اللغوية، والبلاغية والأسلوبية، والتأويل في تفسير الآيات ثم ما رأينا ذلك في شرح الشراح القدامى لأشعارهم. وتواجد الغموض عند كل شاعر وتكاثره عند أبي تمام والمتنبي وغيره والناظر في ضوابط البلاغة والنقد يجد كما هائلا من استنباط الغموض وضوابطه.
- الغموض المعاصر:
ينطلق الغموض المعاصر من مفهوم الجمال المكتمل بذاته؛ فبعض الأدباء يرى الغموض جميلا لكن تحديد ما هية الجمال لا تُستطاع، وإن وجدنا تلاحما وتناسقا في تراكيبه وإضاءة مثيرة، وهذا ما يريده المبدعون للنص الإبداعي، يريدونه جميلا لكن لا يبحثون عن ماهية هذا الجمال، وكأن الجمال تأتى من المتلقي للميل لهذه التعمية التي ترسل أشعتها وسهامها، وهم يرون المتعة بلا منفعة دلالية (إن الشيء لا يمكن إلا أن يكون جميلا لأنه يمنحنا بعض البهجة) ويرون (أن الجميل هو اللا نفعي فلا غاية له) عابد خزندار، الإبداع وهم يشبهونه بالرقص ويحدد عابد النص الإبداعي بقول؛ (صفوة القول إن العمل الإبداع يبرز نفسه ويصف نفسه ويستغل بذاته دون أن يحتاج إلى مبرر خارجي فالأجزاء تشرح الكل والكل يبرز الأجزاء والعمل الجميل يمكن أن يجد ما يقابله أو يشاكله لكنه يستعصي على الترجمة وبالتالي على الشرح) هذه حجاج سوفسطائي لا برهان له وهذا المفهوم للمصدر الإبداعي يرفض تحديد قضية التجربة الشعورية بل يرفضها، وتارة يقولون إن النص صناعة عقلية محكمة الاتقان، وهو يرفض عملية التأويل المتجهة إلى قائل النص، وهذه الوهمية والضبابية التي لا تريد معرفة النص ولا شخصية المبدع إنها الفلسفة العبثية التي ترفض إدراك الأشياء. وتلك الفلسفة هي التي جعلت لا أهداف ولا قيم.
وأسباب الغموض أنهم لا يبنون فكرة شفافة للقصيدة ولا يريد هدفا للعبارة
ومنها أنهم يرون الابتعاد عن المعرفة وبراهينها، فيلتمسون؛ مضامينه من إضاءات بعيدة التأويل وهم يريدون نصا مفتوحا تتعدد قراءته ولا يصلون إلى مضمون ولا غاية، وهم يعقدون للصور علاقات متباعدة لا تأتي عقليا ويزاوجون بين تركيب واضح وآخر ينكشف بعد لأي وآخر ينغلق تأويله. ومن النصوص ما قاله شوقي بزيع:
غيم وشبكان من مطر
ومن مفاتنها سوى ليلين في أهدابها
وخمس أصابع في الريح
يتنبحان على غراب
إن هذا الشعر وأمثاله مات في عمر الفتوة وكم من دواوين قبرتها الرفوف وتجاوزتها الأبصار إن فكرة الغموض غير المتناهي لا وجود لها الآن عاشت كعشبة الربيع.
والحقيقة التي لا مراء فيها أن الغموض نابع من غموض الحياة والفكر، وبمكونات الحياة وحراكها، التي لا يملكون ضوابط ولا فكرا منهجيا، يقنن بالبرهان أو مصداقية التنفيذ؛ فإن أرباب العقل ومعارفه ينشدون الوضوح والذين ولجوا إلى ظلام الغموض لا يستطيعون السير تماما كالساري في ظلام الليل الدامس؛ فعقولهم في ضبابية، وقلوبهم في خواء نفسي؛ فلا بدّ أن يحمل إبداعهم هذه اللولبية في العتمة فأكثر ما ينقصهم أن ليس عندهم منهجية عقلية تقوم على التراكم الديني والوعي المعرفي والمنهجية الاستنتاجية، وأجزم أن أحوال هؤلاء المبدعين وبعض ممن يزعمون الفلاسفة كلهم نتيجة الإنسلاخ الديني الذي صحب الحركة التنويرية ونتيجة اعتماد العقل على المعرفة التجريبية وتفريغه من المعادل الإيماني، وهؤلاء هم الذين أوصلوا العالم محاربة السنن الكونية، والإنسانية، وأردوا تحويل حياة الإنسانية إلى البهيمية، ومن يقرأ سيرهم الذاتية يدرك التيه الذي عاشوا فيه. فهل من أبحاث عميقة تدرس أسباب الانهيار الإنساني، ومن تلامذة رامبو يقول د.حسين علي أحد زملاء الجامعة:
لن يرجع للطائر هذا الريش الوامض
بالفرح الدافق
روحي العارية المثقلة بقيظ خانقة
تعبث بكرات الثلج النزقة.
ومع هذا الفكر الهلامي فإن كبار النقاد والفلاسفة العقلانيين من قديم العرب وفلاسفة أوروبا والمشرق يلتقون على مائدة الوسطية للغموض ويكشفون عن أسبابه وضوابطه وأنواعه كما قسمه العالم الفرنسي (أمبسون) فقد صنف أنواع الغموض إلى سبعة أنماط:
- النمط الأول (أن تكون الكلمة أوالعبارة مؤثرة من وجوه مختلفة في آن واحد ويدخل تحت هذا النمط - وهو أوسع أنماطه- أشياء كثيرة.
النمط الثاني (الذي يكون فيه الغموض على مستوى الكلمة والتركيب عند ما يندمج معنيان أو أكثر في معنى واحد) أي من الكلمة والتركيب معا.
النمط الثالث (يحدث عندما يكون هناك فكرتان مرتبطتان بالسياق فحسب يعبر عنهما بكلمة في الوقت نفسه) وهذا الذي يسمى بالعربية التورية.
النمط الرابع (عندما تحتمل عبارة معنين مختلفين أو أكثر يتضافران لتوضيح حالة ذهنية أكثر تعقيدا لدى الكاتب) ينجم الغموض عن احتمال تأويلين مختلفين لكامل النص وليس لمفرداته أو بعض تراكيبه كتوظيف عشق الحب العذري لحب الله أو لرسوله صلى الله عليه وسلم ويمثل في ديوان ابن العربي الصوافي فظاهره غزل وعمقه حب صوفي.
النمط الخامس (يحدث عندما يكشف الكاتب فكرته أثناء فعل الكتابة حيث يظهر تشبيه لا ينطبق شيء الذات لكنه يقع بين شيئين عند انتقال الشاعر من أحدهما للآخر).
النمط السادس (وهو الذي ينتج عند ما يكون الكلام متناقضا ويجر القارئ على أن يبتكر تأويلات أو أن تكون العبارة لا تقول شيئا وذلك لتناقضها أو لعدم علاقتها بما يقال فيجر القارئ على ابتكار تفسيرات وتأويلات) هذه الأنماط تلتقي مع كثير من الاستنتاجات العربية لنظرية الغموض وكذلك مع تفريعات البلاغة ومع تأويلات المفسرين وترجيحاتهم.
النمط السابع (وهو الذي ينتج عن التناقض الكامل، الذي ينعكس في انفعال في ذهن الكاتب وذلك عندما يكون المعنيان الخاصان بالكلمة هما المعنيان المتقابلان الذين يحددهما السياق، وإن الأثر العكسي هو بيان انقسام رئيس في ذهن الكاتب وهذه الحالة شائعة في درجات متفاوت) وقد فصلت القول فيها قبل فقرة الأنماط. انظر كتابي الغموض في الشعر العربي.
** **
- عضو مجلس الشورى الأسبق