د. شاهر النهاري
العيش فوق الكرسي متشبثاً، ومقاومة السقوط، ومحاولات التهرب من حتمية قوانين الحياة، وشحاذة إطالة البقاء، معضلة يقع فيها الكثير ممن لا يعرفون كيف يعيشون بدون المنصب، وحتى لو تعذروا بحاجتهم للمال، فإنهم يظلون كاذبين متجهمين مكرمشين بمختلف العُقَد، مكروهين ممن ينتظرون رحيلهم، وغير قادرين على إسعاد أقرب الناس ممن يرتبطون بهم أو يعرفونهم.
ومن يتقاعد مبكرا بالإجبار، يكون حاله كحال من يجري جري الوحوش، حتى يستمر لرزقه يحوش، وقد يستجدي الوظيفة البديلة، حتى ولو لم تكن مناسبة لمقامه وتاريخه.
وقد نستثني من ذلك من يكون مكتفيا، بحيث يختار بكامل إرادته أن يريح العظمتين، ويعيش آخر سنوات عمره بالبهجة متمتعا بما قد جنى، وما هو متيسر له، ودون المبالغة في تأدية وظيفة عاملات النمل، يجمع فيها أكثر مما يحتاج، ومما قد لا يستفيد به إلا الورثة.
التقاعد فلسفة إنسانية فردية، فلا يمكن أن يكون الحكم واحدا على مختلف الحالات، ولا يمكن أن تمتلئ عين الإنسان، ولو بالتراب، إلا لو كان صادقا مع نفسه.
أشخاص كثر يستقبلون التقاعد بحزن وكآبة وتشاؤم عظيم، وقد يخسرون في شهور ما بنوه من علاقات مع أقرب الناس إليهم، ويصبحون حالات عزلة مرضية نفسية مستعصية مزمنة، والبعض يتمكنون من صنع دنيا جديدة كانوا يتمنونها، بهواية يزاولونها، أو حرية يتجولون في أرجائها، أو مجرد رضا بما هو مقسوم لهم، والتلذذ بما يمتلكون، وبطول بساط يمدون عليه سيقانهم، والعمل على التنبه لما فاتهم من فرص سعادة، وصنع الطمأنينة والحب.
في مرحلة التقاعد إما أن تمتلك ثمار العلاقات الإنسانية، التي بنيتها حبا خلال مشوار عمرك، وأن تشعر بقيمتها، ووقعها، في عدم وجود المناصب، أو أن تكون أنانياً هادماً لا تقدر مشاعر الآخرين، فترتمي طريح الوحدة، وتستغرب، وتتحاشى الواقع، حين يهملك من أهملتهم، وينقم عليك كل من ضيقت عليهم الحياة، وكل من همشتهم أثناء بروزك، وكل من جرحتهم بحد كرسيك، وغرور سيطرتك، وتجاهلك، وظلمك، وعنجهيتك، وعنصريتك، وعدم إنسانيتك، وفشلك في حمل أمانة رحلة الحياة القصيرة.
في التقاعد غالبا لا تكون صحتك بمثل ما كانت، والضعف البدني يحدث ويكبر، ويرسم الحركة والتواجد، والقدرة، ومن لا يستطيع التفريق بين تدرجات المراحل، قد يصطدم مع كل حائط صلب، وقد يعجز عن طرد غربان الخوف، وجرابيع الهروب، واحتقان مصارين الألم، وقد يسقط على عنقه من شاهق.
التقاعد وقت جني الثمار، وكم من ثمر يعطي طعم الحصرم، وكم من ثمر يستمر طعمه على الريق يتجدد، بحب الحياة، وطيبها، وقرب القلوب، ونظرات الرضا، والتآخي والحرص، ورفع مقامات العلاقات الإنسانية فوق كل الكراسي.
في التقاعد أحلام، كثير منها لم تكن متحققة بكل عوامل القوة القديمة، وهنا يمكن أن تتحول الأحلام إلى كوابيس، لمن لا مخدة هانئة له يرتاح عليها، وقد تتحول أجنحة بيضاء تحمل الروح للرضا، والجنان، بمعرفة الأدوار الجديدة العائلية والصداقات، التي كان مقصرا فيها، فيعمل على إنعاشها وإعادة ترتيبها، ومهما استعصت، ومحاولات رفعها لمراحل الغبطة والأمل، والبعض قد لا يهتم، أو لا يتنازل عن مواقف في مخيلته متجمدة قديمة، أو لا يعود يجد من يجاريه بالمنافسة، فيشتري أطنان الروتين القاتل، ويبيعه على ذاته، ويحاول تحته دفن حسراته.
في التقاعد تتفتح لك بعض النوافذ، التي كانت مغلقة، بهوجة الشباب، وضيق الوقت، وضيق الخلق، أو ضيق ذات اليد، وكثيرون من المتميزين عند تقاعدهم يوفقون في جعلها نوافذ خير تهب على بقية أيام حياتهم بأنسام الحلول، وطيب القرب، وصنع معدن الحياة الجديدة، بمقاييس أصالة تختلف، وتتميز، ويظل غيرهم يضجرون ويعاندون ويبادرون بإحكام غلقها، خوفا من دخول الريح الباردة، التي تشعرهم جفوتها بشدة وحدتهم.
في التقاعد مرحلة عمرية ونفسية وعائلية تختلف، والكثير يعتبرونها عزيزة، ويدخلونها بسلام آمنين، والبعض يحقد على ما أوصلهم لها، وما صعب عليهم معرفة مفاتيح أبوابها، فيضطرون لرسم أبواب تخيلية جديدة، على صخور عتيقة لا تنطق رسماتها، وعلى وجوه مياه جارية تنساب من بين أياديهم، وعلى سحابات صحراوية تجري وتتبدل، والكل يحصل ما في الغيب، ويبادر بشربه بكل صفوه وعكره.
في التقاعد يأتي البعض بنوايا وهمم بناء ما تهدم من حياتهم فيحيون تواجدهم الأسري قدر المستطاع، وينعمون بإرشاد الأبناء والعناية بالأحفاد، والسعادة باستمرار قدرتهم على المشاركة وإسعاد من حوله، فيلحمون ما قطع، ويأتي البعض منهم ناقما ليهدم ما تبقى من الجدران القديمة، ويشتري رنة ولمعة الجديد، الذي قد لا يكون مناسباً له، ولصحته، ويضحي مهما كلفه ذلك من غضب وجفاف وحسرات وخيبات، وشوائب في علاقات حبيبة قريبة، وقد ينجح البعض بشكل شكلي، وقد يعرف الكثير منهم متأخرين، بأنهم لم يكونوا نِعم المتقاعدين، ولا نِعم من هيأوا أنفسهم بالعقل والمنطق لما بعد التقاعد.
حكايات التقاعد تختلف، وكل متقاعد إما أن يقود مسيرته بنفسه، أو أن يركب على المقعد الجانبي يتأمل، أو على المقعد الخلفي يسترق النظرات، أو أن يجد نفسه منطويا في الصندوق، فليس كل من نصح المتقاعد صادقاً، وليس كل من حفزه عارفاً، وليس كل من حذره أمين، وليس كل من طمعه راغب في فائدته، فالبعض يعتبره حقل تجارب، والمتقاعد عقل يطول برؤيته ويفهم وقد يفتقد الكثير من حداثة العصر وغرابته، ويستغرب الجديد من جنون التقنية والتواصل، ويظل يريد أن يفهم باعتدال، ودون القفز المتعجل للنتائج، ودون خسارات متأخرة، وقد ينجح، وقد يقتنع ويستسلم، والأمر يستمر جزءاً من نبض الحياة يتبلور في ضميره وعينه، ومن خلال التقدم في العمر يتم تقبل الواقع، أو الغضب منه ومعاندته، وقد يراه البعض مساحات حب وتحمل لحماس المسؤوليات، وفرصة لكتابة السيرة العطرة، وترك الأثر العميق، والنظر لأبعد من الكراسي وما تجلبه من حب وقتي مشوب، والاستعداد لأي مجريات قادمة تستجد، حتى ولو انتهت بالجلوس على الكرسي المتحرك، أو بانعدام العجلات وسرعة الرحيل.
الموت مكتوب على جباه الجميع، صغاراً وكباراً، وليس معنى صغر السن حياة أطول، ولا التقاعد يعني الموت قائماً أو قاعداً، ولكنه ممر تجارب يبث في النفس المطمئنة الراحة، وحلاوة تقبل المصير، طالما أنه عاش فتراته بمنتهى الرضا، يزيد من الخير له ولمن حوله، ويختصر ممرات الشر، ويغض وينسى ويغفر، ويكتب لكل من يقرأ سيرته رسالة وعي وحب ووداع حميم، ويقرع أجراس في ذاكرة المحبين، وعشم في تذكر لمحات من وجوده الجميل، والتسامح حيال الزلات، وشم طيب روائحه، والترحم على روحه الزكية..