د. تنيضب الفايدي
كنت من قرّاء زاوية (فكرة) لمصطفى أمين والتي كانت تنشر في عدة صحف في آن واحد، ومن تلك الصحف (الأخبار) و»الشرق الأوسط»، وذكر أن والدته كانت تكرّر عليه وعلى أخيه التوأم علي أمين، بأن نشكر كلّ من قدّم لنا أي خدمة مهما كانت صغيرة مثل: تقديم فنجان شاي، أو كأس ماء ومن يساعدهما في ارتداء الملابس عندما كان الخادم يقوم بذلك مذ كانا صغيرين، وتعوّدت على ذلك - والكلام لمصطفى أمين - لدرجة أنني عندما كبرت أصبحت أكرر للمصعد «شكراً» عندما أصل إلى الدور المطلوب، ومعروف أن للشكر منزلة عظيمة، وهناك فرق بين الحمد والشكر.
الفرق بين الحمد والشكر
الشكر لا يكون إِلا ثناء ليد أَوليتها، والحمد قد يكون شكراً للصنيعة، ويكون ابتداءً للثناء على الرجل فحمدُ الله الثناءُ عليه، ويكون شكراً لنعمه التي شملت الكلّ، والحمد أَعم من الشكر. وفي لسان العرب: والحمد والشكر متقاربان والحمد أَعمهما؛ لأَنك تحمد الإِنسان على صفاته الذاتية وعلى عطائه ولا تشكره على صفاته. لسان العرب (3/ 155). وقال بعضهم: والحمد والشكر في اللغة يفترقان، فالحمد لله الثناء على الله تعالى بصفاته الحسنى والشكر أن يشكره على ما أنعم به عليه، وقد يوضع الحمد موضع الشكر ولا يوضع الشكر موضع الحمد. بمعنى أن الحمد أعم من الشكر، قال ابن منظور: والشُّكْرُ مثل الحمد إِلا أَن الحمد أَعم منه فإِنك تَحْمَدُ الإِنسانَ على صفاته الجميلة وعلى معروفه ولا تشكره إِلا على معروفه دون صفاته، والشُّكْرُ مقابلة النعمة بالقول والفعل والنية فيثني على المنعم بلسانه ويذيب نفسه في طاعته ويعتقد أَنه مُولِيها. لسان العرب (4/ 424).
ومنه الحديث: الحمد رأْس الشكر ما شكر الله عبد لا يحمده كما أَن كلمة الإِخلاص رأْس الإِيمان وإِنما كان رأْس الشكر لأَن فيه إِظهار النعمة والإِشادة بها ولأَنه أَعم منه فهو شكر وزيادة.
والشكر قد يكون بالقلب، وهو تصور النعمة، وقد يكون باللسان، وهو الثناء على المنعم قال صلى الله عليه وسلم: (أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمدُ لله). رواه الترمذي، وقد يكون بالجوارح ومنه قوله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا}، يقول القرطبي رحمه الله قال الزهري: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} أي: قولوا الحمد لله، وشكراً نصب على جهة المفعول أي: اعملوا عملاً هو الشكر، وكأن الصلاة والصيام والعبادات كلها هي في نفسها الشكر إذا سدت مسده، فحقيقة الشكر الاعتراف بالنعمة للمنعم، واستعمالها في طاعته، والكفران استعمالها في المعصية، بمعنى أن العبادات وخاصة البدنية هي شكر الجوارح.
ويقول ابن القيم -رحمه الله -: «وحقيقة الشكر في العبودية هي ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده: ثناءً واعترافاً، وعلى قلبه: شهوداً ومحبةً، وعلى جوارحه: انقياداً وطاعةً». مدارج السالكين (2/ 244). وينبغي للشاكر أن يكون خاضعاً للمشكور وأن يكون محباً له، كما يعترف بنعمة المشكور، وأن يشكر على تلك النعم وأن يستخدمه فيما يرضيه. ونظراً لأهميته فإنه يجلب للشاكر السعادة والاطمئنان فقد أمر الله سبحانه وتعالى به في عدد من الآيات. قال تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ سورة البقرة الآية (152)، وقال عزَّ وجلَّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ سورة البقرة الآية (172) وقال: فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلالاً طَيِّبًا وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ سورة النحل الآية (114)، وقال سبحانه: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ سورة الزمر الآية (66). وقال عزَّ وجلَّ: وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ سورة لقمان الآية (12)..
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى قصص الأنبياء ووصفهم بأنهم كانوا كثيري الشكر فقد قال سبحانه وتعالى عن نوح عليه الســــــلام: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا سورة الإسراء الآية (3). وقال عن خليله إبراهيم عليه السلام: شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ سورة النحل الآية (121)، وقال سبحانه وتعالى: يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ سورة سبأ الآية (13)، وقد ورد في السنة النبوية ما يدل على قيام آل داود عليه السلام بالشكر قولاً وعملاً ففي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن أحب الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وأحب الصيام إلى الله تعالى صيام داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً. متفق عليه.
ونبينا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم كان يشكر الناس كثيراً فقد ذكرت عائشة رضي الله عنها: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه فقالت عائشة لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: «أفلا أحب أن أكون عبدا شكورا». متفق عليه. وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم كما روى ابن عباس رضي الله عنه: «رب اجعلني لك شكّاراً لك ذكّاراً لك رهّاباً لك مطواعاً لك مخبتاً إليك أواهاً منيباً...». رواه الترمذي وابن ماجة. وقد وعد الله سبحانه وتعالى بالجزاء الأوفى والأجر الكبير للشاكرين، حيث قال تعالى: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ سورة آل عمران الآية (144)..
ومن الجزاء الحسن على الشكر الزيادة، فكلما حصل منك الشكر على النعمة حصلت لك الزيادة فيها، فالشكر سبب الزيادة قال سبحانه وتعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ سورة إبراهيم الآية (7).. يقول العلامة القرطبي -رحمه الله - بعد أن ذكر جملة من الأقوال في معنى الآية: والآية نص في أن الشكر سبب المزيد. وقد قال على بن أبي طالب -رضي الله عنه - لرجل من همدان: إن النعمة موصولة بالشكر، والشكر يتعلق بالمزيد، وهما مقرونان في قَرَن، فلن ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من العبد. رواه البخاري برقم (4532). وقد أمر الله -سبحانه وتعالى - المؤمنين بالشــكر الكثيـــر قال تعالـــى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ سورة البقرة الآية (152)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ -رضي الله عنه - «والله إني لأحبك فلا تنس أن تقول دبر كل صلاة اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» رواه أبو داود والنسائي.
إن تذكر نعم الله على الإنسان وهي كثيرة تزيل ما يصيب نفسه من حزن وكآبة بسبب الملمات، يقول أحد العلماء في كتابه (لاتحزن وابتسم): «عندك عينان، ولسان وشفتان ويدان ورجلان {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}، هل هي مسألة سهلة أن تمشي على أقدامك، وقد بترت أقدام، وأن تعتمد على ساقيك، وقد قطعت سوق، أحقير أن تنام ملء عينيك، وقد أطار الألم نوم الكثير، وهل هي قليل أن تملأ معدتك من الطعام الشهي وأن تكرع من الماء البارد وهناك من عُكّر عليه الطعام ونغّص عليه الشراب بأمراض وأسقام».
فيفكر كل واحد منا قليلاً في سمعه وقد عُوفيت من الصمم وفي عينيه وقد عُوفيت من العمى، وفي لسانه وقد عُوفي من البكم، وفي رجليه ويديه وقد عُوفيت من الشلل، فهذا التفكير والتذكير من أسباب السعادة، لذلك أمر الله سبحانه وتعالى بتذكير النعم حتى يشكر الله على تلك النعم ويجد لذة السعادة، قال تعالى: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ سورة آل عمران الآية (103). وقـال تعالى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ سورة البقرة الآية (40). يقول الغزالي: لا تشكر النعم إلا بأن تعترف أن الكل منه فإن خالجك شيء من هذا لم تكن عارفاً لا بالنعمة ولا بالمنعم». إحياء علوم الدين (4/ 76).
وأخيراً فإن للشكر فوائد كثيرة منها:
إن الشكر من كمال الإيمان وحسن الإسلام فهو نصف الإيمان، والشكر اعتراف بالمنعم والنعمة، وأنه سبب من أسباب حفظ النعمة، بل من الزيادة فيها، كما أن الشكر من أسباب كسب المؤمن رضا الرب تبارك وتعالى وفيه دليل على سمو النفس وعلوها. والشكور قرير العين يحب الخير للآخرين، ولا يحسد من كان في نعمة. كما أن الشكر يجعل صاحبه من أهل خواص عباد الله وقليل ما هم. وفي الشكر الاقتداء بالأنبياء الكرام فهم أهل الشكر، وغير ذلك من الفوائد والثمار.