د. أحمد محمد الألمعي
لا يخفى على الجميع الدور المهم والإنساني لشركات العقاقير الطبية في تطوير ما نعرفه اليوم من أنواع الأدوية وطرق علاجية ساهمت في تخفيف المعاناة الإنسانية وفي استئصال كثير من الأمراض المستعصية التي عانى منها الإنسان على مر العصور، وهي بذلك تشارك كثير من المؤسسات الأكاديمية في هذا المجال وقد تتفوق عليها بحكم ضخامة ميزانياتها وإن اختلفت أهداف الطرفين. ولا يعرف الكثيرون بوجود جانب مظلم لممارسات شركات الأدوية التي تشير بما لا يدع مجال للشك إلى أن الربح المادي والمحافظة على القيمة السوقية لأسهم هذه الشركات وزيادة ثراء المساهمين فيها هو أهم أولويات كل من يعمل في هذه الإمبراطوريات الاقتصادية. تصبح هذه الصورة ذات أهمية لا يُستهان بها على المسرح العالمي اقتصادياً وسياسياً عندما نعلم أن المبيعات السنوية لبعض شركات الأدوية الغربية تتراوح بين 15-40 مليار دولار حسب آخر التقارير، وأن القيمة السوقية لبعض شركات الأدوية تفوق التريليون دولار، وهي بذلك تتجاوز ميزانيات كثير من الدول. وتبعاً لذلك الثقل الاقتصادي، هناك تأثير ونفوذ سياسي لا يُستهان به وصل في بعض الأحيان إلى إسقاط حكومات عملت ضد مصالح هذه الشركات في الماضي، واستخدمت هذه الشركات عملاءها وعلاقاتها بالحكومات الغربية لتحقيق هذه الأهداف. وبينما تراجعت أرباح أكثر الشركات حول العالم على اختلاف نشاطاتها ومنتجاتها أثناء جائحة الكورونا، ارتفعت أرباح غالبية شركات الأدوية بأرقام فلكية. وأذكر على سبيل المثال الشركات المنتجة للقاحات الكورونا مثل فايزر واسترا زينيكا وغيرها ممن تجاوزت مبيعاتهم من منتجات اللقاحات البلايين بسعر تقريبي 40 دولاراً للقاح الواحد، وبالطبع فقد تم شراء غالبية هذه اللقاحات من قبل الدول الغنية دوناً عن الفقيرة. وتشكل الولايات المتحدة أكثر من ثلث سوق الأدوية العالمية، بمبيعات سنوية تصل قيمتها إلى 340 مليار دولار ويليها الاتحاد الأوروبي واليابان. ويبلغ حجم سوق الدواء في المملكة أكثر من 40 مليار سنوياً ومن المتوقع أن يستمر في النمو، وبلغت مبيعات الدواء السعودي ما نسبته 27 % بينما بلغت نسبة مبيعات الشركات الأجنبية 73 %، وهناك أكثر من 40 مصنعاً للأدوية في المملكة حالياً.
وتشمل الأدوية ووسائل العلاج التي تنتجها الصناعات الدوائية: الأدوية بنوعيها: الملزمة لوصف الطبيب، أو تباع حرة في السوق، مواد التطعيم، مواد للتشخيص، منتجات الدم، أنسجة حيوية وخلايا حيوية. وتنفق شركات الأدوية نحو 150 مليار دولار سنويًا على مشروعات البحث والتطوير، وذك من أجل مواكبة الطلب العالمي المتزايد على الأدوية والضغوطات لتطوير الأدوية لتقديم أكثر العلاجات ابتكارًا. وتتصدر شركات الأدوية في العالم شركات ذات جنسية أمريكية أو سويسرية أو قد تكون متعددة الجنسيات منها؛ بريستول مايرز سكويب ( Bristol-Myers-Squib)، جلاكسو سميث كلاين (Glaxo smith kilne)، أمجين( AMGEN)، أب في (ABBVIE)، (Novartis)، ميرك (MERCK )، سانوفي (SANOFI)، جونسون آند جونسون) (Johnson and Johnson، روش) (ROCHE وفايزر) (PFIZER وهي أضخم هذه الشركات.
وتغيرت على مر العقود أساليب البحث العلمي كما تغيرات أنظمة وأساليب ترخيص الأدوية من قبل الهيئات الحكومية المختلفة المعنية بسلامة المنتوجات المباعة في السوق وفاعليتها وصلاحيتها للاستخدام البشري. وأكبر هذه الجهات هي هيئة الدواء والغذاء الأمريكية (FDA) ، يتبعها هيئة الدواء الأوروبية وغيرها، كما أنشئت المملكة العربية السعودية هيئة الغذاء والدواء المعنية بمنح تراخيص بيع المنتوجات الدوائية المختلفة في المملكة. في عام 2008م قرر مجموعة من الباحثين تفحّص ما نُشر من تجارب دوائية رُفعت لهيئة الغذاء والدواء الأميركية (FDA) عن مضادات الاكتئاب التي وصلت إلى سوق الدواء بين عامَي 1987م و2004م، ولم تكن هذه مهمة سهلة؛ حيث احتوت أرشيفات الهيئة على كَمٍّ لا يُحصى من المعلومات عن جميع التجارِب التي رُفعت إلى الجهات المختصة لكي تحصل الأدوية الجديدة على الترخيص اللازم لبيعها في الأسواق. استطاع الباحثون بعد مشقة كبيرة أن يجدوا 74 دراسة تم إجراؤها على 12.500 مريض. لاحظ الفريق أن 38 من هذه التجارِب أسفرت عن نتائجَ إيجابية ووجدت أن العقَّار محل الاختبار مفيد وفعَّال، بينما 36 منها كانت نتائجها سلبية، ومن ثمَّ كانت التجارب منقسمة بين النجاح والفشل فيما يخص تلك العقاقير. تتبع الباحثون بعدها الصيغة التي نُشرت بها تلك التجارِب في الدوريات الأكاديمية المنشورة، ؛ فظهرت للفريق صورة مختلفة تماما؛ إذ وجدوا أن 37 من التجارِب الإيجابية (أي كلها باستثناء واحدة) قد نُشرت بالكامل، بينما كان للتجارب ذات النتائج السلبية مصير مختلف بالكلية، حيث نُشر منها 3 تجارب فقط، واختفت 22 تجربة تماماً. وأما الـ11 تجربة الباقية التي كانت نتائجها سلبية ضمن ملخصات الهيئة، فقد ظهرت في الدوريات الأكاديمية بالفعل، لكن العجيب أنها كُتبت بحيث تبدو العقاقير وكأنها كانت ناجحة وفعَّالة. وقد ثار حول ذلك جدل كبير، وبدأت الأنظار تتجه من هنا إلى ممارسات شركات الأدوية ونزاهة البحوث التي تُجرى من قبلها أو تكون مدعومة مالياً منها. وقد تم كشف اللثام عن منظومة كاملة من الفساد وعيوب تم التستر عليها لسنوات طويلة. وقد ألّف الأكاديمي البريطاني بين جولديكر كتابه «شرور شركات الأدوية» عن فساد صناعة الدواء والسبيل إلى إصلاحها الذي عرض فيه الفساد الممنهج في صناعة الدواء.
وتختلف أساليب تسويق الأدوية بشكل كبير، وقد سببت تلك الأساليب جدل كبير بسبب الهدايا والمنح والدعم المالي لحضور مؤتمرات وغيرها من المحفزات التي تمنحها شركات الأدوية للأطباء بهدف تسويق منتجاتها، بل وتطور الأمر خلال العشرين سنة الماضية إلى نشر إعلانات من خلال التلفزيون ووسائل الإعلام المختلفة تستهدف المستهلك أو المريض مباشرة، وأصبح المرضى يطلبون دواء بعينه عند زيارة الطبيب نتيجة تأثير تلك الإعلانات. تم استهداف الكثير من ممارسات شركات الأدوية خلال العشرين سنة الماضية من جهات مختلفة حكومية ومؤسسات مجتمعية غير نفعية بهدف تغيير سلوكها والحد من نفوذها من خلال التشريعات والقضايا القانونية والغرامات المالية الضخمة التي بلغت عشرات الملايين من الدولارات خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية. وأصبحت شركات الأدوية تخشى اليد الطولى للجهات التشريعية وأصبح سلوكها أكثر حذراً. وما زلت أذكر كطبيب ممارس في الولايات المتحدة الأمريكية لأكثر من عشرين سنة كيف تغير سلوك ممثلي شركات الأدوية الذين كانوا يزورون عيادتي بانتظام، حاملين الكثير من الهدايا مثل الأقلام والتحف وغيرها من العينات، وفجأة توقف كل ذلك كما توقفت جميع النشاطات التي ليس لها علاقة مباشرة بالتعليم الطبي المدعومة من شركات الأدوية. ما زالت نشاطات شركات الأدوية التسويقية موجودة ولكن تم تقنينها إلى حد كبير، كما قل اهتمام الأطباء في المشاركة في تلك النشاطات خاصة عندما أصبحت ممارسات شركات الأدوية منشورة ومعروفة عبر وسائل الإعلام.