أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبوعبدالرحمن: المسلم يدعو ربَّه بطلب الهداية والتوفيق تارة، وتارة يطلبه هداية ممثَّلة بهداية غيره.. وكلا هذين المطلبين وردا في سورة الفاتحة؛ فأُمرنا بطلب الهداية إلى الصراط المستقيم، ثم أُمرنا بطلب أن تكون هذه الهداية كهداية من أنعم الله عليهم.. وفي هذين الطلبين نفائس وجواهر من كنوز العلم؛ فمن ذلك أننا نطلب الحق الصحيح ونطلب الهداية إليه؛ فنحظى إن شاء الله بأن نكون في أكثر سلوكنا ممن يُؤجر أجرين؛ لصوابه، وخلوصه.. ثم نطلب هداية كهداية المنعَم عليهم أهل الرفيق الأعلى؛ فنضمن طلب حسن الخاتمة؛ لأن المنعَم عليهم مختوم لهم بخير، ونمتثل نوعاً من الدعاء جليلاً وهو التوسل إلى الله بنعمه وإحسانه؛ فكما هَديتَ المنعَم عليهم نعمة منك وتفضُّلاً فتفضَّل علينا يا ربنا بما تفضَّلت به عليهم.. ثم إن في طلبنا هداية كهداية المنعم عليهم ضماناً لطلب تتميم المسيرة بالرحمة؛ لأن الله لم يُدخل المنعَم عليهم الجنة بأعمالهم، بل برحمته.. هداهم أولاً، وضاعف أجرهم ثانياً، وضاعف نعيمهم أضعاف أجرهم؛ فكل معاملته لهم رحمة.. والتوسل إلى الله بالعمل فقط عمل المغرورين، والتوسل إلى الله برحمته فقط عمل المغترِّين، والتوسل إلى الله بالرحمة بعد أداء العمل والاعتراف بالتقصير هو ابتهال المحسنين.. ولا يدخل في الصنفين الأوَّلين قصة أصحاب الغار؛ لأنهم في أحوج ما يكونون إلى الرحمة.. ثم إن التوسُّل إلى الله بالرحمة اعترافٌ بكرمِ الله؛ لأنك لا تقول لبخيل: أكرمني كما أكرمت غيري؛ لأنه لم يُكرم أحداً.. وإنما تقول له: بالله اغلط هذه المرة فأكرمني!!.. أما الكريم فتستدرُّ كرمه بتعداد مكارمه، ولله المَثَلُ الأعلى من كل شيىء؛ فإذا قلت: أَنعِمْ عليَّ يا ربِّ كما أنعمتَ على أوليائك فهذا اعترافٌ بكرم الله.
قال أبو عبدالرحمن: وسورة الفاتحة من أولها إلى آخرها تعليم للخلق كيفية الدعاء، وهي أنَّ مَنْ أراد من ربِّه قضاء حاجة: قدّم لمسألته بحمد الله وبتمجيده، وإعلان عبوديته له، وتوحيده له، واستعانته به كما في سورة الفاتحة تماماً تماماً.
قال أبوعبدالرحمن: توحيد الله الذي دعت إليه جميع الرسل ينقسم إلى قسمين لا ثالث لهما: أولهما توحيد علمي اعتقادي يتعلق بعلمنا بالله كما هو في الواقع.. وثانيهما توحيد عملي وقولي ينبثق عن العلم الأول، ويُخْلِصُ العمل المقصود للرب الواحد المعبود بحق.. والعلم الاعتقادي أن يعلم الإنسان بالفطرة والاستدلال والخبر الشرعي ما يجب لله من صفات الكمال والجلال، وما يتنزَّه عنه من صفات النقص جلَّ جلاله؛ فيعلم العبد افتقار كل شيئ سوى الله إلى الله، وأنه خالق كل شيئ سواه ومدبِّرُه والمهيمن عليه.. وفي هذين العلمين تدخل أنواع التوحيد الاعتقادية والعملية الثلاثة، وهي ربوبية الله، وكماله الذي يُعبَّر عنه بتوحيد الأسماء والصفات، وتألُّهنا له وحده الذي يُعبَّر عنه بتوحيد الألوهية؛ لأنه سبحانه الإله الواحد حقيقة.. وكل اسم دالٍّ على كمال الله فهو دالٌّ على ربوبيته وألوهيته، وكل اسم دالٍّ على ألوهيته فهو دالٌّ على ربوبيته وكماله.. وهذا التلازم بين أنواع التوحيد هو الذي يتميَّز به أهل السنة والجماعة بين أهل الملل والنِّحَل؛ فمن عطَّل أسماء الله وصفاته أو شبَّهها أو كيَّفها أو حدَّدها بمقدار من أهل النِّحَل فقد جعل إلهه معدوماً وألغى شيئاً من توحيد الربوبية والألوهية كمن عطَّل مدلول السمع أو شبَّهه، فكيف يكون رباً من لا يتصف بسمع مخلوقاته؟.. وكيف يكون إلهً من لا يسمع عبادةَ خلقِهِ؟.. ومن جحد حق الله في الألوهية من أهل الملل فقد جحد ربوبية الله؛ لأن الألوهية من حقوق الربوبية.. كما أنه جاحدٌ لكمال الله؛ لأنَّ التألُّه لله حقٌّ لمقتضى كماله.. أما من جحد ربوبية الله فلا معنى لإيمانه بالألوهية والكمال.
قال أبو عبدالرحمن: ولكي أشرح معنى التلازم أذكر مثالاً بصفة القيُّوم جلَّ جلاله؛ فالقيُّوم من صفات الكمال، وهي من معاني الربوبية؛ لأن كل الخلق في قيُّوميته في كل لحظة وفي كل طرفة عين؛ لأنه قيُّوم عليهم بقدرته وعلمه وحكمته وهيمنته ورحمته وتدبيره.. وهي مستلزمة لكل صفات الكمال من العلم والقدرة والسمع والبصر، وهي مستلزمة لألوهية الله؛ لأن الأحق بالعبادة من كان قيوماً وهو الله جلَّ جلاله.. وهذا التوحيد الاعتقادي العلمي، وما لزم عنه من توحيد الألوهية العملي: دلَّت عليه (سورة الفاتحة) من ناحية الإجمال، وهو حصر الحمد لله.. ولا يُحصر الحمد إلا لمن كان ربَّاً وحده، إلهً وحده، له الكمال وحده؛ وبهذا يكون الحمد توحيداً إذا صُرف لله، ويكون شركاً إذا صُرف لغير الله فيما لا يُحمد فيه إلا الله، وهذا حينما يرد الحمد بصيغة الحصر للمخلوق.. ويكون عادياً إذا صُرف لمخلوق في شيء يقدر عليه، وهذا لا يكون بصيغة الحصر، ويكون متعلقاً بفعل معيَّن من قدرة العبد التي منحه الله إياها كقولك: حمدتُ لزيدٍ بلاءَه في الحرب.. ولو قيل: (الحمدُ لزيدٍ في الحرب) لكان شركاً؛ لأنك أطلقت له الحمد في خصوص الفعل.
قال أبو عبدالرحمن: ودلَّت (سورة الفاتحة) على أنواع التوحيد الاعتقادي، وما لزم عنه من توحيدٍ عملي بالتفصيل من قوله تعالى: {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ}؛ فهذه مجامع صفات الله وأسمائه؛ فلفظ الجلالة (الله) هو الاسم الأعظم الذي تكون كل صفة من صفات الله معنى من معانيه، والربُّ جامِعٌ كلَّ صفات الربوبية التي تقوم بها مخلوقات الله، والمُلكُ جامعٌ لمعاني القهر والهيمنة والعلم والسمع والبصر مع اسم القيُّوم والحي، وكل هذه دالة على معاني الربوبية والألوهية والكمال.. ثم ذكر (الرحمن الرحيم) استئناساً للنفوس في أداء حق الألوهية (وهو العبادة)؛ لأنه إذا وجب علينا أن نعبد الله (من ناحية ملاحظة معاني الغلبة كالقهر والهيمنة) فمن باب أولى أن نعبده من ناحية ملاحظة معاني اللطف (وهي الرحمة العامة) في قوله تعالى: {الرَّحْمنِ}؛ لأنها يصدر عنها فعل الرحمة.. وهي أيضاً الرحمة الخاصة بالعابدين الذين هداهم بعد هداية الإيضاح هداية التوفيق والتسديد والإعانة، وذلك في قوله: {الرَّحِيمِ}؛ وبهذا يتبيَّن سرُّ التنصيص على الألوهية والربوبية والملك والرحمة بعد الحمد المطلق.. ومَن تتبَّع أسماء الله وصفاته من الكتاب والسنة، واستكشف تلازمها ودخولها في عموم أمهات الأسماء والصفات التي يتردَّد ذكرها في النصوص: فإنه يُحصِّل نفائس من الفقه في الدين.. ولعلَّ هذا من أسرار الحضِّ على إحصاء الأسماء الحسنى بنص الحديث الشريف الصحيح؛ ولهذا حرص العلماء على تتبعها ك (أبي نعيم، وابن حزم)؛ بل أفردها بعضهم بالتأليف والشرح ك(القرطبي، والغزالي، والزجَّاج، والزجاجي)؛ بل إنَّ توفيق الإمام ابن تيمية في أمور العقيدة، وسموق فكره في هذا المجال: كان بفضل الله، ثم بتتبع أسماء الله وصفاته، واستخلاص جوامعها، واستحضار التلازم بينها؛ ولهذا تراه يحشد النصوص حشد التلميذ الأمين المستسلم لدين الله، ثم ينبجس ذهنه بعظمة فكرية في ملاحقة الشُّبه وحجزها بأقماع السمسم.
قال أبو عبدالرحمن: التوحيد العلمي لا قيمة له إذا كان مجرد يقين في العقل كإيمان بعض الفلاسفة والمتكلمين؛ بل لابد أن يكون عقيدة في القلب وراحة في النفس.. فإن قال قائل: من أين أتيتَ بهذا الاشتراط؟.. فالجواب: أنني أتيت به من قوله تعالى: {الْحَمْدُ للّهِ}، ومن قوله تعالى: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} ومن قوله تعالى: {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}؛ فإذا آمن عقلي صدقاً بكل ذلك فلابد أن أحب ربي في قلبي، وأرضى عنه في كل ما أمضاه عليَّ من قضائه.. وبيني وبين من أنكر هذا دلالة اللغة العربية التي نزلت بها (سورة الفاتحة)؛ فمن لم يحب ربَّه ولم يرضَ عن: فلم يحمده، ولم يعترف بأنه ربيب نعمة ربه، ولم يعترف بأن الله الرحمن الرحيم.. إن من يعتقد أن الحمد لله فمقتضى حاله يقول: لا نحصي ثناء عليك.. ومن أَفْعَم قلبَه العجزُ عن إحصاء الثناء، فمعنى ذلك أنه مُفْعَم القلب بحب الله والخضوع له والرضى عنه؛ إذ لا حبَّ ولا خضوعَ ولا رضى مع إنكار الحمد والثناء.. والإيمان العلمي لا ينفع إلا بشيء من فعل الخير ولو دون ذرة لمن لم يمت بعد إيمانه مباشرة، وزاد ما دون الذرة على سيئاته، والمؤمن غير العامل مُحَدَّدٌ انتفاعه بأنه لا يخلد في النار.. ولكن كم هي الحقب التي سيُعذَب فيها؟.. لا يعلم ذلك إلا الله سبحانه.. وإطلاق الحمد لله دلالة على إطلاق الكمال لله.. قال ابن قيم الجوزية رحمه الله: ((وكلما كانت صفات كمال المحمود أكثر كان حمده أكمل، وكلما نقص من صفات كماله نقص من حمده بحسبها؛ ولهذا كان الحمد كله لله)) [انظر: (مدارج السالكين) 1/33]
قال أبوعبدالرحمن: وكل عمل لا يقبله الله إلا بشرطين: أولهما أن يكون خالصاً لله، وثانيهما أن يكون صواباً وفق مراد الله؛ ولهذا جاء في دعاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اللهم اجعل عملي صواباً كله، ولا تجعل فيه شركاً لأحد.. وقد دلَّ على هذين الشرطين (سورة الفاتحة)، فالحصر في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} دلَّ على خلوص العمل لله، وطلب الهداية إلى الصراط المستقيم دلَّ على صواب العمل.. وعطف صواب العمل على خلوصه من عطف العام على الخاص؛ لأن الخلوص من شرط الصواب، ولكن مُيّز الإخلاص؛ لأنه الشرط الأوليُّ بالنية؛ فالقلب ينوي المقصود بالعمل وهو الله؛ فهذا هو الإخلاص، وينوي العمل المقصود نفسَه.. وذلك عموم الصواب إذا طبَّق نيته وَفْقَ أمر الله الشرعي.. و(سورة الفاتحة) دالَّة على إيجاب العلم بالله وبشرعه؛ لأنها ذامَّة للضالين؛ وهي دالَّة على إيجاب حسن القصد؛ لأنها ذامة للمغضوب عليهم.. وفي (سورة الفاتحة) إيماءٌ إلى تحريم الرياء بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}، وفيها إيماءٌ إلى تحريم الكبر بقوله تعالى: {وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، فالمرائي عابدٌ لغير الله، والمستكبر مستكبرٌ عن عبادة الله وعن الاستعانة به، وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.
** **
كتبه لكم/ (محمِّد بن عمر بن عبدالرحمن بن عبدالله العقيل) -عفا الله عَنِّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين-