سهوب بغدادي
دائمًا نسمع عبارة تتردد بكثرة عندما يتم سؤالك عن عمرك فتجيب، وتراقب ملامح السائل تتبدل وتتشكل من ثم يعيد تهدئتها وإرجاعها لوضعها الطبيعي تكلفًا، فيقول «العمر مجرد رقم»، هل العمر مجرد رقم فعلاً؟ قد يكون كذلك، فقد يتقدَّم بك السن وأنت كما أنت، ذات الوعي، والاهتمامات، والمهارات، من ثم تصل إلى مرحلة «البلاتوه» أو الهضبة التي يضرب بها المثل لاستوائها فتمر السنون دون أدنى شعور ودون تغيير أو تغيّر، إلا أن شيئين يتغيران هما الشكل الخارجي والصحة والعافية -أدام الله علينا وعليكم الصحة والعافية- في المقابل، نجد شاباً في مقتبل العمر يذكر عمره فيدهشنا وتتبدل ملامحنا بشكل إيجابي، فلقد عاش في 5 سنوات مثالاً ما لم يعشه رجل ستيني طوال عمره، من اكتساب مهارات وأشخاص ومرونة نفسية وصلابة معنوية وما على ذلك، فالعمر الزمني لا يتماشى لزامًا بالتوازي مع العمر النفسي والعكس صحيح، بغض النظر عن كل ما سبق، كيف تعلم أنت أنك كبرت، فأحيانًا لا يرى هذا التغيّر سوى الأشخاص المحيطين بنا، إلا أنك تستشعر التغيير عندما تكون حالتك المزاجية أهم من «منظرك أمام الناس» فتعتذر عن السهر والسمر ما لم يكن لك فيهما مأرب، وتجد أنك وصلت وجهتك أثناء القيادة في الزحام ولقد استمعت بالكامل لأغنية أم كلثوم دون أن تكل أو تمل كالسابق، عندما كنت تقول «متى تبدأ الست تغني؟» كما تنظر بعين الرحمة للصغار والمراهقين والطائشين، وتكفيك فرحتهم بما يفعلون دون معرفتك بماهية ما يفعلون، تعرف أنك كبرت عندما تتبع رغبتك وحدسك وصوتك الداخلي وما يمليه عليك دينك ومبادئك التي توصلت لها عن قناعة، ولا تمشي وراء الترندات والهاشتاقات والموضات، تعي أنك كبرت عندما تلمس الفارق والفرق والاختلاف في تصرفاتك عن الجميع، قد تشعر بالوحدة أحيانًا أو أنك غريب الأطوار، ولكن لم تعد الوحدة أو إن صح القول الخلوة أمرًا سلبيًا، بل تتوق لها نفسك لتمارس طقوسك الغريبة، التي قد تكون في قراءة الصحف أو الكتب على تلك الكنبة المخملية وبجانبك كوبك المفضل من القهوة، وتعلم أن كبرت عندما ترى ما لم تكن تراه وما لا يراه غيرك في ذات المكان، كشعور الامتنان للمة العائلة، وضحكات الأطفال، أو لمجرد سماعك صوت صديقك القديم عبر الهاتف، كما تعي تمامًا أن العلاقات تتطلب اللين والمداراة وغض الطرف عن الزلات، فبقاء الود أولى لديك من تسجيل موقف وإظهار قوتك، ببساطة لأنك تعلم عن نفسك ما تريد أوما تحتاج أن تعرفه عنها، بغض النظر عمّا ظنه الغير، فأنت انعكاس لذاتك، لذا لم تعد تقف أمام المرآة مطولاً كسابق عهدك، فما يلبث المنبه بالرنين حتى تجد نفسك أول الجاهزين، أو أول أقدم المنتظرين للجميع ريثما يجهزون، وقد تتأخر في بعض الأحيان ليس لأسباب عادية في نظر الجميع، بل لسبب تعلم أنك لو قلته بصوت مرتفع سيثير الدهشة ولن يصدق، كاستمتاعك بزقزقة العصافير لبرهة ثم مواصلة سيرك، أو وقوفك مع جارك على باب المسجد بعد انتهاء الصلاة، وتطول المواقف واللحظات ولا يسعني هذا المقام والمقال لجمعها تارة واحدة، بل أترك خيالكم في يومكم وساعتكم هذه، مع تمنياتي لكم بأن تكبروا بسلام وسعادة وفي طاعة الرحمن.
ماذا عنك، متى عرفت أنك كبرت؟