رؤية - خالد الدوس:
اهتم عدد كبير من المفكرين والباحثين في الشرق والغرب بالدعوة إلى إثراء علم الاجتماع وميادينه، واستخدام مناهجه العلمية في دراسة المجتمع البشري وظواهره، واكتشاف قوانين النظام الاجتماعي الذي يحافظ على استقرار المجتمع وضبط توازنه. وقد أسهم كثير من المفكرين والمنظرين والعلماء في إثراء هذا الميدان العلمي الخصيب، وإشباع اتجاهاته السوسيولوجية. ومن أهم المنظرين والباحثين في علم النفس والاجتماع العالم الأمريكي جورج هربرت ميد (1863- 1931). رائد نظرية التفاعل الرمزية التي تعد هذه النظرية من النقاط الأساسية التي تشكلت من خلالها النظرية الاجتماعية والأنساق الاجتماعية.. ومن المؤسسين لعلم النفس الاجتماعي الذين اشتهروا بتأسيس البراجماتية الأمريكية.. وهي اتجاه فلسفي يقرر «أن العقل لا يبلغ غايته إلا إذا قاد صاحبه إلى العمل الناجح, فالفكرة الصحيحة هي الفكرة الناجحة, أي الفكرة التي تحققها التجربة».
ولد جورج هربرت ميد في عام 1863 في جنوب هادلي ماساتشوستس الأمريكية في أسرة متوسطة الحال وأكمل تعليمه العام في موطنه, ثم التحق بكلية أوبرين عام 1879 ونال شهادة البكالوريوس التي كانت تركز على التاريخ والأدب وبعد تخرجه عمل كمسئول في شركة ويسكونسن المركزية للسكك الحديدية لمدة ثلاث سنوات ونصف ثم عزم على مواصلة تعليمه العالي في أعرق الجامعات الأمريكية جامعة هارفارد عام (1887) ونال درجة الماجستير في الفلسفة الاجتماعية وفي اثناء دراسته في جامعة هارفارد درس أيضا علم النفس والذي أثبت تأثيره في عمله كعالم اجتماع فذ. وبعد حصوله على الماجستير شد الرحال إلى ألمانيا رغبة في دراسة الدكتوراه في الفلسفة الاجتماعية وعلم النفس الفسيولوجي حيث انتقل إلى جامعة برلين عام 1889, لكن عرض عليه منصب مدير لمركز التدريس في الفلسفة وعلم النفس في جامعة ميتشغان الأمريكية أثناء دراسته في جامعة برلين فأوقف دراسته للدكتوراه لقبول هذا المنصب ولم يكمل برنامج الدكتوراه في ألمانيا, ليعود إلى موطنه، وفي جامعة ميتشغان التقى هربرت ميد بالرواد الأوائل: وهم عالم الاجتماع تشارلز هورتون كولي, والفيلسوف جون ديوي, والعالم النفسي ألفرد لويد.. وهؤلاء العلماء أسهموا في تطوير فكره, وتوسيع مداركه العلمية وعمله الأكاديمي وعندما عين (جون ديوي) رئيسا لقسم الفلسفة في جامعة شيكاغو عام 1894 انتقل ميد لجامعة شيكاغو وعّين عضو هيئة التدريس في قسم الفلسفة. فشكل مع جون ديوي والعالم جميس هايد مثلثاً متناغماً في تأسيس البرجماتية الأمريكية التي تسمى (برجماتية شيكاغو). كما ركز على فهم التفاعل المتبادل والذات الاجتماعية, واستمر (ميد) في عمله الأكاديمي بجامعة شيكاغو حتى وفاته عام 1931.
* اشتهر العالم (جورج هربرت ميد) بنظريته عن الذات التي قدمها في كتابه الشهير (العقل, الذات, والمجتمع) الذي كان ينُظر إليه كثيرا.. العالم تشارلز موريس بعد وفاته وأسهم في تأصيل نظرية ميد في الذات, عندما أشار إلى أن المفهوم الذي يحمله الشخص في ذهنه ينبع من التفاعل الاجتماعي مع الآخرين ووفقا لمبدأ ميد يتكون من عنصرين: «أنا» و»أنا» يمثل «أنا» توقعات ومواقف الآخرين المنظم إلى الذات الاجتماعية يحدد الفرد سلوكه, أو سلوكها الخاص بالإشارة إلى المواقف العامة للمجموعة الاجتماعية التي تشغلها عندما يكون للفرد أن يرى نفسه من وجهة نظر الآخرين يتم تحقيق الوعي الذاتي بالمعنى الكامل للمصطلح, والأخرى المعممة (الداخلة في «أنا» (هي الأداة الرئيسية للرقابة الاجتماعية, لأنها الآلية التي يمارس بها المجتمع والسيطرة على سلوك اعضائه الفرديين. وبشرح مبسط: فإن «أنا» هي الذات ككائن, في حين أن «أنا» هي الذات كموضوع. وضمن نظرية جورج ميد فإنه هناك ثلاثة أنشطة يتم من خلالها تطوير الذات) اللغة, واللعب, واللعبة بحيث تسمح (اللغة) للأفراد بتولي دور الآخر وتسمح للناس بالرد على ايماءاتهم الخاصة من حيث المواقف الرمزية للآخرين, وأما أثناء (اللعب) يتولى الأفراد أدوار أشخاص آخرين للتعبير عن توقعات الآخرين المهمين حيث إن عملية لعب الأدوار مفتاح لتوليد الوعي الذاتي والتنمية العامة للذات حسب معطيات نظرية ميد.
وأما في (اللعبة).. على الشخص أن يتقبل جميع أدوار الآخرين الذين يشاركون معه في اللعبة ويجب عليهم فهم قواعد اللعبة. والواقع أن (جورج ميد) استطاع تحفيز هذا المجال على تطوير نظرية لتفاعل الرمزية وهي إحدى النظريات الرئيسية في علم الاجتماع واستطاع أيضاً بفكر رصين وحس سوسيولوجي رفيع.. ربط الفرد بالجماعة, والجماعة بالمجتمع من خلال أهمية ودور التنشئة الاجتماعية في البناء السلوكي والقيمي والاجتماعي والنفسي والتربوي. والنظرية التفاعلية الرمزية تنظر إلى الأدوار التي يقوم بها الأفراد مع بعضهم داخل المجتمع من خلال القيم والصور والرموز المشتركة, ومن الممكن أن تحمل هذه الرموز والمعاني قيماً سلبية, ومن الممكن قيماً إيجابية على ضوء الرموز والصورة الموجودة داخل الذهن التي كونها وشكلها العقل البشري عن التفاعل في البيئة المجتمعية. كما اعتبر (الذات) المحور الأساسي في عمليات التفاعل.. وأن هناك علاقة تبادلية بين الذات والمجتمع.
وفي سياق المجتمع أوضح (ميد) أن المجتمع ديناميكي وتطوري بشكل مستمر في تقديم أنماط جديدة للأفراد, ويلاحظ أن النظرة الديناميكية والمعيارية للمجتمع تتوازى مع تركيز العالم الاجتماعي الشهير ماكس فيبر للمعنى والترشيد. كما اعتبر أن الفرد رشيد وأنه نتاج العلاقات الاجتماعية.
وخلال مسيرته العلمية التي امتدت لأكثر من (40 سنة) كتب ونشر العالم الراحل (جورج ميد) العديد من المقالات ومراجعات الكتب في كل من الفلسفة الاجتماعية وعلم النفس، ولكن بعد وفاته قام العديد من طلابه بتجميع وتحرير أربعة مجلدات من سجلات دورة علم النفس الاجتماعي الخاصة بهذا العالم في جامعة شيكاغو ومذكراته وأوراقه العلمية وأبحاثه الرصينة غير المنشورة وتضمنت أعماله الرئيسية التي صاغها طلابه في الكُتب التالية: كتاب فلسفة الحاضر 1932م, وكتاب العقل والذات والمجتمع عام 1934, وكتاب حركة الفكر في القرن التاسع عشر عام 1936, وكتاب فلسفة العقل عام 1938, كما قدم (جورج ميد ) مساهمات كبيرة في فلسفات الطبيعة والعلوم والتاريخ والانثروبولوحيا الفلسفية, واعتبر وحسب رأي الفيلسوف الشهير (جون ديوي) مفكراً في المرتبة الأولى في القرن الـ19.
إن الأصالة الفكرية للعالم (جورج ميد).. كما تحدث عنها (جون ديوي) تظهر في أنه بدلاً من أن يضع المشكلات القضايا الفكرية في المقدمة - مثل حال العلماء السابقين له - إلا أنه اختار أن يربط هذه الأفكار والمشكلات بالأفكار والأحداث المعاصرة كي يتم معالجتها بالتجربة المباشرة.
والأكيد أن القراءة الدقيقة للسيرة الذاتية (لجورج ميد) تكشف لنا وبجلاء عن ثورته الفكرية في نظريته الاجتماعية والتي يشترك في بعض منها مع البراجماتيين إلا أنه تميز بإبداعه الفكري في بعضها الآخر, وبعيدا عن كونه فيلسوفا براجماتيا فهو مفكر وعالم استطاع أن يتفوق على أقرانه داخل الصروح الأكاديمية «فكرا وبحثا وتطبيقا» كواحد من أشهر علماء النفس الاجتماعي في القرن التاسع عشر.. وكذا إسهاماته في الفلسفة الاجتماعية التي لم يتناولها الباحثون إلا بعد وفاته ولم يتمكنوا من الكشف عن ثورته الفكرية في نظريته الاجتماعية على وجه التحديد. بعد أن ناقش موضوعا متميزا حول الأداة المهيمنة على الفعل التي تعمل على إدارة «الفعل الإنساني» محددا تلك الأداة بما أطلق عليه «الذكاء الفكري» وذلك لأنه يعد العنصر العقلي الأكثر هيمنة ومشاركة في توجيه الفعل الإنساني.
توفي العالم الشهير (جورج هربرت ميد) في 26 أبريل 1931م وكان يبلغ من العمر 68 سنة تاركا في ذاكرة العلوم الاجتماعية.. تاريخا حافلا بالمنجزات العلمية والبصمات الواضحة, والإسهامات البارزة في تراث علم النفس الاجتماعي والفلسفة الاجتماعية بعد أن صاغ مفاهيم نظرية أساسية عالجها بصورة نقدية واقعية لتصبح مرجعا مهما لكثير من علماء الاجتماع والنفس المعاصرين.. وأبرزها نظرية التفاعل الرمزية والنظرية المعرفية, والتنشئة الاجتماعية التي يعد من روادها ومؤسسيها.