يتطور الفكر بتطور الحياة والمتغيرات التعليمية والاقتصادية والتقنية، وينعكس تطوره على تطور المصطلحات والأسماء لكي تتحقق النتائج والإنجازات لتحقيق الفائدة الإنسانية.
ونحن نعيش عصر العلم والتفكير الناقد والإبداعي وليس الفلسفة.
ولا شك أن الفلسفة نشأت بناء على أسئلة مهمة من فلاسفة اليونان مثل فيثاغورس وسقراط وأرسطو وأفلاطون مرورا بفلاسفة الإسلام وفلاسفة الغرب والشرق الآخرين.
والفكر الفلسفي تطور هو الآخر تبعًا لهذه التطورات، وبالرغم من ظهور الفلسفة ما قبل الميلاد بدأت الفلسفة غير ممنهجة ومقننة تدرس العموميات، إلا أنها تطورت عبر الزمن وتغيرت مفاهيمها ومصطلحاتها ما عدا اسمها.
وإذا كانت الفلسفة philosophy قد عرفت بأنها اختصار لكلمتين وهما (حب الحكمة) ولقب فيثاغورس نفسه بأنه (فيلسوف) وكذا فعل سقراط. ويرى البعض أنها تنسب إلى أفلاطون الذي يستخدمها في وصفه (سلون وسقراط).
وفي عالمنا الإسلامي والعربي عرفها الفيلسوف الفارابي بأنها «العلم بالموجودات بما هي موجودة». ونظر لها الكندي كعلم للأشياء بحقائقها الكلية. واعتبر أن الكلية خصيصة جوهرية تميزها عن غيرها. ويرى ابن رشد أن «الفلسفة تفكير في الموجودات بصفتها مصنوعات». وفي الفكر الغربي يرى الفيلسوف إيمانويل كانت Kant بأن «الفلسفة هي المعرفة الصادرة من العقل» وديكارت René Descartes يعتبر الفلسفة «دراسة الحكمة، بصفتها تهتم في علم الأصول مثل علم الله وعلم الإنسان والطبيعة». ونظر ديكار ت للفلسفة على أساس «أنها الفكر المدرك لذاته الذي يدرك شمولية الوجود، وأن مصدرها هو الخالق».
هذه التعريفات وغيرها توضح لنا أن الفلسفة تعنى بالتفكير في الوجود والخلق وما وراء الطبيعة.
أهم مزايا الفلسفة
تتميز الفلسفة بخصائص مثل (التجريد والكلية أو الشمولية)، فالتجريد يعني الفكر المجرد الذي لا يرتبط بزمان أو مكان. أما الكلية (الشمولية) فتعني فلسفة العلاقات بين الأشياء، مثل علاقة الإنسان بالآله وبالآخرين وبالطبيعة.
وربما تكون هذه الخصائص وبالذات خصيصتا «المجرد والكلية» هي التي أفقدت الفلسفة قوتها بعد تطور العلوم الطبيعية والإنسانية وتحررها من الفلسفة كنظرة مجردة وشمولية. بمعنى أن الفلسفة وجدت عناصر نهايتها في خصائصها.
لهذا انتهت الفلسفة مع نهاية السرديات الكبرى التي تعنى فيها الفلسفة، وظل الفكر في تطور وتوسع في مجالات متعددة ومتطورة لتطور العلوم بكل مجالاته وتطور التقنية والتغير الإنساني الذي نشهده.
وإذا كانت الفلسفة قد نشأت على أساس تفعيل أقصى ممكنات العقل والمنطق والملاحظة والاستدلال بهدف الوصول لحقائق مثبتة حول أصل الوجود والمعارف وأصل الأشياء والأخلاق التي يحتكم بها الناس، فإن تطور العلوم الطبيعية والإنسانية وتخصصها في مجالات متعددة أو جعلها علومًا مستقلة أضعف من دور الفلسفة وقيمتها في الحياة كما كانت في الماضي.
وتعتبر الفلسفة إنجازًا إنسانيًا تطور عبر فترات ومراحل طويلة ومتعددة من الزمن وبجهود مفكرين وعلماء من أنحاء المعمورة كافة، وهذا ما أتاح لها اتجاهات وأفكار ومدارس ونظريات فلسفية عديدة.
لقد قرأت الفلسفة بعمق وشمولية منذ المرحلة الثانوية ودرست بعض مواد فلسفة التربية بجامعة الملك سعود (الرياض سابقاً). ودرست بعض موادها(الوجودية والوضعية) في برنامج الدراسات العليا في جامعة ولاية كليفورنيا في أمريكا.
إن قراءة الفلسفة ممتعة عقليًا ونفسيًا وذوقيًا في بداياتها، وقد تصل إلى درجة الترف الذهني والفكري والثقافي وتغري بالمواصلة كما حدث معي ومع غيري، لكنها لا تقدم منفعة مع تطور العلم والتقنية، ولا تتطور مثل الفنون والآداب كالقصة والرواية والشعر. لكنها انتهت الآن كعلم تطبيقي مفيد بالحياة.وستظل تدرس،كتاريخ.
لقد ماتت الفلسفة... وبقي التفكير مستمر
ما قصدته هو أن الفلسفة تناقش السرديات الكبرى التي انتهت.. الوجود والميتافيزيقيا.
نحن في عصر العلم والتفكير الناقد والإبداعي.. تحررت العلوم السلوكية والاجتماعية والأنثربولوجية من الفلسفة وأصبحت علومًا مستقلة.
في تقديري أن الفلسفة انتهت لأنها كانت تناقش سرديات كبرى لم يعد لها قيمة ومنغعة. وبرز التفكير الناقد والإبداعي كثمرة لهذه العلوم. وتطور التفكير النقدي في مجال التعليم والتربية والإدارة والتقنية.
ونحن نعيش عصر التفكير الناقد والإبداعي وليس الفلسفة.
نهاية الفلسفة بين الفلاسفة والعلماء
يشير وهبة (2015) أن الفيلسوف لودفيج فتجنشتين (ت. 1905): قال «وداعاً للفلسفة التي كانت تنشغل بالبحث عن التدليل على وجود الله وعن التدليل على خلود الروح. وكذلك وداعاً للفلسفة التي كانت تتوهم أنها قادرة على قنص الحقائق المطلقة».
ويضيف فنجشتين: «والنتيجة المترتبة على ذلك كله أن الفلسفة الحقة هي الخالية من القضايا الفلسفية».
واختتم فنجنشتين أحد مؤلفاته بهذه العبارة «حيث يكون الكلام ممتنعاً يكون الصمت واجباً».
وتساءل بعد ذلك: «ماذا يكون مصير الفلسفة؟»(مراد وهبة، 2015).
موت الفلسفة عند العالم ستيفن هوكينج
وإذا كان المفكر فتجنشتين تسأل «ماذا يكون مصير الفلسفة؟»
فإن الإجابة الحقيقية جاءت على لسان العالم ستيفن هوكينج Stephen Hawking الذي أجاب في مقابلته عام 2011 والتي قال فيها «إن الفلسفة ماتت».
موت الفلسفة عند ستيفن هوكينج
يقول العالم والمفكر البريطاني ستيفن هوكينج وليونارد ملودينوو Leonard Mlodinow في كتابهما التصميم العظيم The Grand Design م 2015 ....» لكن الفلسفة قد ماتت، الفلسفة لم تلاحق تطورات العلم الحديثة، وخصوصًا مجال الفيزياء، أضحى العلماء هم من يحملون مصابيح الاكتشاف في رحلتنا بحثًا عن المعرفة».(ص 13)
ويدعم المفكر الفرنس فرانسوا ليوتار Jean-François Lyotard هذا الرأي حسب المناصرة (2006) عندما يعرّف ليوتار ما بعد الحداثة بأنها « التشكيك في السرديات الكبرى (الميتا حكايات)، هذا التشكيك هو بلاشك نتاج التقدم في العلوم، لكن هذا التقدم بدوره يفترضه سلفًا، وأبرز ما يناظر قدم جهاز إضفاء المشروعية الميتا حكائي، هو أزمة الفلسفة الميتافيزيقية ومؤسسة الجامعة التي كانت تعتمد عليها في الماضي».
ويؤكد ليوتار على أن معيار التشغيل هو «معيار تكنولوجي، وليس له علاقة بالحكم على ما هو صادق وما هو عادل».
ويقول الدكتور محمد عاكف جمال (2015) ضمن مقال له في صحيفة البيان الإماراتية عن نهاية الفلسفة:
«ليس هناك من شك في أن أي فكرة لا تولد إلا في الأطر الفكرية لعصرها وليس لها أن تتجاوز ذلك، ولعلنا من هذا المنظور نقول إن فكرة هوكنغ وزميله عن موت الفلسفة هذه ليست استثناء من ذلك».
ويضيف عاكف «من الإنصاف أن نقول إن الفتوحات العلمية الكبيرة التي تحققت قد أضعفت من دور الفلسفة في الحياة».
الفلسفة انتهت قيمتها ليس لأن ستيفن هوكينج قال «إنها ماتت» فحسب، بل يُعَدُّ المفكر الألماني فردرك نيتشه Friedrich Nietzsche أول من هدم الميتفيزيقيا ونقد فكر أفلاطون. وتعرض بالنقد لبعض ثوابت الفلسفة والميتافيزيقيا والحداثة ومفاهيمها الرئيسة مثل مفهوم الذاتية والعقل والتمثل والحقيقة وغيرها. وسار في طريقه تلميذه مارتن هيدجر Martin Heidegger حيث واصل هايدغر ما بدأه نيتشه - كما عرض محمد الشيخ (2009) «من إعادة بناء نقده لتاريخ الميتافيزيقا، عبر تفكيكها، وعرف مشروعه الفلسفي بأنه تأويل للكينونة، وواجه في نقده مختلف أشكال يقينيات ومسلمات العقل المتمركز على الذات والذي يمثل مبدأ الحداثة، ورجع، مثل استاذه نيتشه، في نقد العصور القديمة، ليكشف هو الآخر ما وراء بدايات التاريخ الأوروبي على ما يدحض تلك الأشكال التي طرحت بدءًا من أفلاطون إلى هيجل كبدائل تفكرية عن الوجود (الكينونة)».
لقد ضعفت الفلسفة بسبب مطارق نيتشه وهيدجر. وأسست لعصر ما بعد الحداثة والتي حدد تعريفها ودشنها مجموعة مفكرين أمثال ليوتار ومفكرو اللغة والنقد واللسانيات.
ويلاحظ أن معظم مفكري فرنسا منذ الستينات تحولوا إلى مفكري لغة ونقد وأدب.
وهناك من يعتقد بأن الفلسفة ما زالت تتمثل في الأخلاق والجمال والمعرفة.
ونود التأكيد أن الأخلاق والجمال تحررت وأصبحت علومًا شبه مستقلة ومتطورة، فعلم الأخلاق أصبح له معايير مهنية قابلة للقياس وأصبح هناك معايير أو مواصفات للأخلاق ما يعرف بالمدونة الأخلاقية وهي وثيقة تتبناها المنظمات وتتألف من ثلاثة مستويات هي مدونات أخلاق العمل، ومدونات سلوك الموظفين، ومدونات الممارسات المهنية.
وتتبنى بعض المنظمات المدونة الأخلاقية لمساعدة أعضائها في فهم الفرق بين «الصحيح والخطأ».
كما أن علم الجمال تحرر من الفلسفة وأصبح حقل علم مستقلاً وثيق الصلة بالفن والأدب وعلم النفس والنقد واللغة واللسانيات.
إن العلوم الإنسانية خصوصاً علم التربية والإدارة والأعمال والنفس، والاجتماع والإنثربولوجي لم تبلغ غايتها، أما الفلسفة مجال حديثنا انتهت، ولأن هذه العلوم خرجت منها، تحررت وتطورت كعلوم إنسانية لها منهجيات وقياس.
ومشكلة الفلسفة -في رأيي- عدم قدرتها على تطوير منهجية وقياس، لأن العلوم هي منهجيات وقياس، ونتائج وعوائد للبشرية.
هوامش:
- ستيف هوكينج، ليونارد مولدينوو، التصميم العظيم، ت. أيمن أحمد عياد، دار التنوير، 2015.
- عز الدين المناصرة، إشكالات الحداثة وما بعد الحداثة الأورو- أمريكية، موقع صحيفة الرأي الأردنية، 26 مايو 2006.
- مراد وهبة، هل ماتت الفلسفة؟، موقع صحيفة الأهرام، 20 يناير 2015.
- محمد عاكف جمال، هل ماتت الفلسفة؟، موقع صحيفة البيان الإماراتية، 20 فبراير 2015.
- محمد الشيخ، نقد الحداثة في فكر هيدجر، موقع صحيفة البيان الإماراتية، 5 أبريل، 2009.
** **
- ناصر محمد العديلي
Chmq2012@gmail.com