محمد رضا نصر الله
يقول عبدالمقصود خوجة -رحمه الله- أثناء الاحتفاء المتأخر بوالده في جامعة أم القرى بمكة المكرمة: (إن الأعمال الأدبية التي خلفها سيدي الوالد، ومثلها عدد من أبناء جيله، أصبحت إرثًا في ذمة التاريخ، فإما أن نهيل عليها تراب النسيان بين أرشيف الصحف، أو ننهض بواجبنا تجاه حفظها وصيانتها، ولم شملها ونفض غبار الزمن عنها.. وهو ما حرصت عليه ضمن مشروع أسعى من خلاله لنشر الأعمال الكاملة لجميع الأساتذة الرواد، الذين تركوا بصمات واضحة في مستهل نهضتنا الأدبية المعاصرة.. كما تجلى ذلك في كتاب وحي الصحراء) الذي قام بتأليفه والده محمد سعيد بن عبد المقصود خوجة سنة 1355هـ مع صديقه عبد الله بلخير، وقدم له بمقدمة ضافية استعرض فيها تاريخ الأدب العربي في الحجاز منذ العصر الجاهلي إلى العصر الحديث، حيث كان خوجة الأب، محورًا متحركًا على أكثر من صعيد واهتمام، في بداية تشكل الدولة السعودية الثالثة، وكان أبو عبد المقصود خوجة من المتحمسين لها، مما جعله ثالث ثلاثة من مؤسسي جريدة (أم القرى) التي صدرت بعد ضم الحجاز إلى المشروع السعودي الوحدوي.
عبر هذه الجريدة وقبلها جريدة (صوت الحجاز) برز ابن عبد المقصود كاتبًا شامل الاهتمام، بقضايا الأدب والمجتمع والسياسة.. وهذا ما اتفق عليه دارسو تلك الفترة، فهو أول سعودي يتولى جريدة (أم القرى) بعد ترؤس يوسف ياسين مهتمًا بالسياسة ورشدي ملحس متحمسًا للتاريخ فوق صفحاتها، كما أن للخوجة الأب ريادات (مقالية) في الدعوة المبكرة لتعليم المرأة، فهو من دعا إلى تخصص المعلم في مادته، في سياق دعوته لتطوير مناهج التربية والتعليم، والحاث مبكرًا على الابتعاث.. ومع اهتمامه بتاريخ مكة المكرمة، وتاريخها الاجتماعي والثقافي والبيئي (المائي) فإنه كان (أول من أقام حفل تعارف بمنى، يدعو إليه كبار شخصيات الحجاج من علماء، وأدباء وسياسيين ووجهاء..) كما اتفق دارسو حياته وفكره.. يطبع لذلك بطاقة دعوة، ويحيي المدعوين بخطبة عصماء في محفل مشهود.
هنا يكمن حال عبدالمقصود خوجة فهو سر أبيه.. حيث افتتح اثنينيته الشهيرة منذ سنة 1982م بإعادة طباعة (وحي الصحراء) مصنف والده المشترك، مع صديقه عبدالله بلخير، متعهدًا بنشر معظم ما كتبه من اختارهم والده من أدباء في كتابه (وحي الصحراء) في مجلدات صدرت من الاثنينية، التي عملت منذ بدأت على تكريم حملة القلم، من أدباء وشعراء وإعلاميين سعوديين، من أجيال مختلفة على امتداد المملكة.. وكان بينهم بعض العرب والمسلمين.
هنا يلح على استنطاق صورة بالأبيض والأسود معلقة مع صور أخرى في مجلس بيتي.
فمازلت أتذكر تلك اللحظة التاريخية في منزل أبي محمد سعيد القديم، حين اجتمع قبل أكثر من أربعة عقود، نفر من أهل الكلم الطيب.. لو شاءت مؤسسة حكومية أو أهلية جمعهم في تلك الليلة الليلاء، لما تمكنت إلا بكبير عناء..
أما أنتَ يا أبا محمد سعيد وابنه، فقد تحلق أولئك حولك، على اختلاف أصولهم ومشاربهم.. بسهولة ويسر.
هذا هو علاّمة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر المحتفى بذكراه العطرة في ناديّكم العامر - إذ ذاك - وقريب منه علاّمة آخر طالما عارك المحققين وأساتذة اللغة والأدب.. أعني صاحب «شواهد القرآن» الشيخ أبا تراب الظاهري.. وليس بعيدًا عنه شاعر الأمة العربية في لحظات تجليها التحرري.. عمر أبو ريشة ويا للعجب كيف اجتمع شمله إلى شاعر تمزقت أعصابه وبح صوته في استنهاض بلده.. وأمته العربية.. أعني شاعر اليمن عبد الله البردوني؟!!
يا ترى من كان يدير هذا المجلس الأدبي الراقي؟!
هل غير شيخ المرتجلين الأستاذ محمد حسين زيدان.. لقد تلاعب بألفاظه وراقص معانيها مما حفّز الشاعرين العربيين على إنشاد الغرر من قصائدهما السائرة على كل لسان.
هكذا هو ديدن العرب في مجالسهم الزاهية بأصحاب القرائح..
لكن هل خشي زوار مجلسك إهمالًا لغير الشعراء؟!
كلّا!.. فالكل توجه بمجامع قلبه صوب حمد الجاسر يطلب منه الحديث.. إلا أنه تردد فعن أي أمر يتحدث، وقد شنف الشاعران الآذان..
هنا تداخل الشيخ أبو تراب مستثيرًا في الشيخ أبي محمد الحديث في مصطلح لغوي اتصل بـ «بمجتمع» الحاضرين.. فهل الأصوب مجتَمع بفتح التاء، أم بكسرها.. ومنها انطلق لسان الجاسر سيَّالًا بالمعارف التاريخية، هادرًا بموضوعه الأثير علاقة الشعر بالمكان.. وكأنه يؤكد أصالة الإبداع بتعبيراته المحلية.. هو ما جعل العرب في فتوحاتهم الغابرة ينشدُّون نحو مرابع شعراء الجاهلية وصدر الإسلام، وما أتى بعدُ من عصور أموية وعباسية.. كانوا فيها لا ينفكون عن ذكر المواقع والديار في الحجاز ونجد والأحساء والقطيف.. وهم بذلك الانشداد، كأنهم يحاولون ملء سنوات اغترابهم خارج جزيرة العرب.. مهد العروبة.. حسب تعبير الدكتور عبد الوهاب عزام.. وقبل ذلك وبعده مهبط الوحي والتنزيل، بصياغة وجدانهم الشعري على منوالهم القديم.. حتى إنني قرأت ذات مرة لشاعر من قرطبة الأندلسية، وهو يهفو من تلك الربوع الخضراء إلى مرابع أجداده المقفرة في دارين!! ومنها - كما تعلمون - كانت تسير قوافل الفرزدق بجر الحقائب، مكتنزة بالعطور المطيبة.
لقد أفاض الشيخ الجاسر في تلك الليلة الوضيئة، فراح يذكر مقاطع من شعر الشريف الرضي ومهيار الديلمي.. أبرز شاعرين وردت في قصائدهما أسماء المواقع والديار.. فاهتاج لذلك مجلسك وماج..
لمَ لا؟ وقد ذكر شيخنا الراحل حجازيات الشريف الرضي. تلك التي وقف عندها الدكاترة زكي مبارك في كتابه الماتع «عبقرية الشريف الرضي» حيث كان يقود من بغداد قوافل الحجيج أميرًا لها، ونقيبًا للأشراف.. وإذ تحط رحال هذا الشاعر الشريف والسيد الجليل.. الفقيه المتكلم في «حقائق التأويل» والمحدث الأديب في «المجازات النبوية» فإنه سرعان ما يستعيد لياقته الشعرية على مقاسات الجمال الباذخ العفيف بين الحطيم وزمزم!
ما أراني خرجت عن موضوع احتفائكم الوفي- هذا المساء الثقافي- بعلم من أعلامنا البارزة.. فقيدنا الكبير الأستاذ عبدالمقصود خوجة، وقد قدم للحركة الأدبية في المملكة، من إصدارات اثنينيته الشهيرة ما تجاوز بها المئات لحملة القلم - احتفاءً وتكريمًا وطباعةً - وفي طليعتهم رواد الأدب والثقافة والصحافة، من رفقاء والده ومجايليه .
وما كان الجاسر - وقد حضرت أمسية تكريمه إذ وصفت - إلا أحد من أخذ بيدهم والد عبدالمقصود - كما يذكر الشيخ حمد في كتابه (سوانح وذكريات) حين كان طالبًا في المعهد العلمي السعودي بمكة المكرمة، مسددًا اتجاهه في مسيرته الأدبية - واصفًا الشيخ محمد سعيد عبدالمقصود خوجة - بأنه كان إذ ذاك أنبه الأدباء، وأسماهم خلقًا وأرفعهم مكانةً.. استقبله استقبال المُوَجِّه، المسرور الحريص على أن يستمر سائرًا في طريق الكتابة والنشر.
أما من لقبه بالماسة السوداء شاعر الوجدان طاهر زمخشري، فقد أفاض في إجلاله لمن وقف معه، وسانده معنى وساعده مادةً، متفقًا وآخرين من زملائه، حتى ممن اختلفوا مع ابن عبدالمقصود ووالده، إطراءً وإكبارًا لريادة الخوجة الوالد، وكان ذلك في حضرة من ولد، في صالونه الاثنيني الكريم الوجه واليد واللسان.