د.عبدالإله موسى بن سوداء
التنبؤ بالمستقبل عَمَلٌ لافتٌ يَشُدُّ انتباه المتلقي، ويُشبِع لديه فضولَ التطلع إلى الغيب، ومسارقةِ النظرِ من شقوق أستاره، وأياً ما كان الممارِسُ للتنبؤ، وأياً ما كانت طبيعة عمله؛ فأغلب الظن أن عمله سيجذب له الأنظار، سواء أكان يتنبأ في شأن المجتمع العام، أم شأنِ الفرد الخاص.
ومرادي بالتنبؤ ليس استبصارَ الغيب عن طريق الكُهَّانِ والبَصَّارين، وإنما التنبؤ المبني على النظر المستبطِن لمعطياتٍ ماضية وحاضرة في موضوعٍ ما، ثم التأليف بين هذه المعطيات لاستشفاف مآلها ومستقبلها، وهذا النوع من التنبؤ يأتي بعد مكابدة التفكير، ومعاناة التأمل، وربما أتى عفواً على شكل أمنيةٍ وتفاؤل، كما قال الشاعر:
تفاءلْ بما تهوى يكن فلقلما
يقال لشيء كان إلا تحققا
وقد أُتْرِعَ الأدب الروائي بثيمةِ استبصار المستقبل واستشرافه، بل إن الناظرَ لا يجد من الفنون جميعِها فناً يَـحفَلُ بهذه الثيمة كما تَحفل الروايةُ بها، ذلك أنها سردٌ، والسردُ في جوهره فنٌ زمني يتعامل مع الزمن من خلال تعامله مع مكونات هذا الزمن؛ فالروايةُ تُصاغ داخل الزمن، والزمن يُصاغ داخل الرواية، ويُسهم في وجودها وبنائها، ناهيك بأن الرواية تُجيد تمزيق العالَـم الواقعي، وتُعيد تركيبه في سردٍ نثري خيالي، وإذا ما تضمنتْ أحداثاً تَرسُم المستقبل؛ فإنها بذلك تُوهِم المتلقي بواقعية هذه الأحداث، وتهيئ ذهنه لتقبلها إذا ما تحققتْ، فالكَوْنُ السردي مُتَركِّبَةٌ أجزاؤه من أدوات العالَم الواقعي الذي مَزَّقَه الروائي وأحاله بَعْدُ إلى عالَمٍ مُتخيل.
إن الروايات التي تُـعْـرَفُ بروايات «الخيال العلمي» مثلاً، تَنهض على حدثٍ رئيس يدور حول التنبؤ بنتائج الظواهر العلمية في حياة البشر، وقد تجلى لقراء الرواية صحة تنبؤات عديدٍ من هذه الروايات، تلك الروايات التي هيأتْ مداركَهم لتقبلها، وعدم التفاجؤ بوقوعها، كرواية (عالم جديد شجاع) لـ ألدوس هكسلي، الصادرة عام 1932م التي تنبأتْ بما سيخسره الإنسان كلما تطورت التكنولوجيا، ورواية (عيون الظلام) لـ دين كونتيز، الصادرة عام 1981م التي تدور أحداثها في مدينة ووهان الصينية، حيث يُطور الخبراء فيروساً خطيرا، وكذلك نَـجِدُ بعضَ تنبؤات الروائيَيْن هربرت جورج ويلز (ت1946م) وآرثر تشارلز كلارك (ت2008م) وقد وَقَعَتْ !
وأما روايات استبصار المستقبل في العالم العربي فكثيرة، وبعضها تضمنت تنبؤاتٍ تحققتْ، كالتنبؤ بهزيمة 1967م في رواية نجيب محفوظ (ثرثرة فوق النيل) الصادرة عام 1966م، وكثير منها إما أنها تَحمِلُ رؤىً لواقعٍ يجب تغييره، أو تتطلع إلى قادمٍ مُنتظر؛ فالسرد الاستشرافي حاضرٌ في كثيرٍ من الروايات العربية، ومنبثٌ في أحداثها، والرؤيةُ الحَدَثيّة –كما يقول الناقدُ هيثم الحاج علي- قائمةٌ على الخوف من المستقبل، ومحاولة تحليل الحاضر لاستكشاف بذور المستقبل فيه.
والمُطِّلعُ على الروايات السعودية التي استشرفتْ بأحداثها المستقبل يجد كماً وفيراً منها، فحَدَثٌ مهم كقيادة المرأة للسيارة –مثلاً- تُرصَدُ عديدٌ من الروايات السعودية التي استشرفته قبل أن يُسمح للمرأة بقيادة السيارة، ومن ذلك رواية (2012) لفوزي صادق، الصادرة عام 2011م؛ فأحداثها تتنبأ بالسماح للمرأة بقيادة السيارة عند حلول عام 2012م، إلى جانب تنبئها بتغير إجازة نهاية الأسبوع، وتُصَورُ أحداثُها الشخصيةَ الرئيسة أم هشام (سعاد) وهي تقود سيارتها في طرقات المنطقة الشرقية بكل حرية ودون مضايقة من أحد، ويَصِفُها الساردُ بقوله: «عاشتْ التجربةَ كأنثى متحررة ومنسلخة من عاداتها وتقاليدها، لكن هذا لم يمنعها من قيادة السيارة كامرأة محافظة تعكس صورة جيدة ومثالية لامرأةٍ سعودية». ويُلحَظُ هنا أن الرواية أخطأتْ في التحديد الزمني لتحقق النبوءة، ولكنها رغم ذلك استطاعتْ تهيئة المتلقي ذهنياً مُشْعِرةً إياه بأن مسألةَ السماح للمرأة بقيادة السيارة مسألةُ وقت، وهو ما تحقق فعلياً في عام 1439هـ الموافق لـ 2018م.
ومِثْلُ هذه الرواية في صحة تنبؤاتها رواية (النساء قادمات) لنايف الصحن، والصادرة عام 2003م، وهي من أقدم الروايات-فيما وقعتُ عليه- التي استشرفتْ مستقبلاً سعودياً تقود فيه المرأةُ السيارة، ورغم أنّ الروايةَ لا تُفْصِحُ عن الإطار الـمكاني (الجغرافي) الذي تدور فيه الأحداث؛ إلا أن المتلقي يُمْكِنُه التعرف على ذلك من خلال أسماء الشخصيات النسائية، والجُمَل الحوارية باللهجة العامية الدالة على أنّ الشخصيات تنتمي إلى المجتمع السعودي تحديداً.
وأيضاً تَبْرُزُ للمُطَّلِعِ على النتاج الروائي السعودي شخصيةُ (نوال) القاضية بمحكمة الرياض، كما في رواية (ريب المنون) لإياد عبدالرحمن، الصادرة عام 1435هـ، وهي تقود سيارتها في شوارع الرياض قبل أن يُسمح للمرأة بقيادة السيارة، وهي إلى جانب هذا السلوك تَعْمَلُ في سلك القضاء ! وعَمَلُها القضائي إنما هو حَـدْسٌ استشرافي لم يتحقق إلى يومنا هذا في حدود علمي، ولكنه تَحقَّقَ في العالم السردي المتخيل الموازي للعالَم الواقعي، والصلةُ بين هذين العالَمَيْن متينةٌ وقوية.
ولو حاول الباحثُ أن يَحصرَ الرواياتِ السعوديةَ التي استشرفتْ بأحداثها المستقبل لطال به الكلام؛ نظراً لكون الرواية بطبيعتها فناً طليعياً يَـرُودُ المستقبلَ مستكشفاً آفاقه، بل إنها لا تُعبّـرُ بأحداثها عن الماضي أو الحاضر إلا لأجل رؤيةٍ مستقبلية تنطوي عليها بين هذه الأحداث، وتَغُورُ في بواطن شخصياتها؛ فالروايةُ فـنٌ زمنيٌ بامتياز ينبني على رؤيةٍ خاصة للزمن، ويوظف عنصرَ (الزمن النفسي) توظيفاً جيداً، ذلك الزمنُ الذي تعيشه شخصياتُه المرسومةُ وتحيا فيه.