د. إبراهيم بن محمد الشتوي
وبالعودة إلى بيت المتنبي السابق، فإن النقاد قد تحدثوا عن هذا البيت كثيراً، وتجادلوا حتى أصبح من الأبيات التي يسعى النقاد لشحذ أذهانهم وأداتهم النقدية حوله، فكتبت حوله التعليقات. وهذا جانب آخر حول هذه الأبيات المشكلة، وهي التي تتجاوز مسألة أن تكون واقعة في الخطأ أو الصواب إلى تحولها إلى مادة يتنازع حولها النقاد، ويسجلون آراءهم، ومقدرتهم على التعليل والتحليل والتفسير.
وإذا كان النحويون القدماء يتبارون في الكشف عن وجوه المعنى المبني على وجوه الإعراب، فإن النقاد كانوا أيضاً يتبارون للكشف عن المعنى أيضاً ولكن المبني على الملامح الفنية التي تجعل المتلقي يتذوق البيت بصورة مختلفة متنوعة بحيث يؤدي إلى ثراء المعنى وجماله، وقد يكون المعنيان متقاربين، إلا أنه في الحالة الثانية ليس واضحاً بصورة كبيرة على اعتبار أنه يندرج فيما يسميه البلاغيون بـ»لازم الفائدة»، وهو ما يفهم من المعنى الإضافي للمعنى الأصلي، أو قد يكون سبباً في تفضيل وجه من وجوه الإعراب على آخر، ما يعني أنه يقوم بوظيفة مهمة في تأسيس الحكم على الأثر الجمالي بوجه عام، وعلى بيت الشعر الذي نحن بصدده في هذا الحديث، وهو ما يجعله أمراً مهماً في العملية النقدية، إذ يعني أن هذه العملية كلها التي ينتج عنها هذا الحديث تمثل نوعاً من الإضافة النقدية، أو يمكن أن نصفه بأنه جنس نقدي جديد لا يمثل فيه الحكم النقدي المحدد المركز في العمل النقدي أو غاية له، وإنما يصبح هذا الإجراء المتمثل بالتجاور للآراء المتعددة، والمختلفة في النظر، وما يمكن أن أسميه «بالاحتمالية» في فهم البيت وفي تفسيره، وعدم الاعتبار لنسبة الخطأ في كل رأي بالرغم من إمكانيته، ما يمنح القيمة -إن صح التعبير- للأداة التي يستعملها النقاد في إدراك المعنى وتحليله بوصفه هو الغاية في العمل النقدي، فهو يحيل العمل النقدي بهذه الصورة إلى عمل فكري (علمي)، ويغري الباحثين في البحث عن الملامح التي يمكن أن تكتشف في البيت سواء كانت هذه الملامح اجتماعية أو نفسية أو تاريخية أو سياسية.
لكن الأمر المهم أن هذا المجموع من الأقوال والآراء والاختلافات حول البيت الواحد مثلت إضافة نقدية بل أصبحت ذات قيمة كبيرة في ذاتها من الناحية النقدية، ومن ناحية بناء البيت عززت قيمة هذه الاعتبارات بوصفها جزءاً من الشعرية أو بوصف الشعرية تقوم عليها، إذ تعتمد على إثارة نوازع الإنسان وهواجسه أو كما يقول النقاد مشاعره، فتعزز موقفه من البيت سواء بالسلب أو الإيجاب، وهو ما يقلل من أثر التعليلات والتحليلات التي يقولها النقاد، ويقلل بدوره من أثر ما وصفناه بالعلمية، فيجعلها علمية لا تملك صرامة العلم وإن كانت تتسم بسماته، وتتوسل وسائله، ما يعزز الجانب الإنساني بالنقد، ويجعله في منزلة بين منزلتين -كما يقول أصحاب العقائد- منزلة العلم ومنزلة الأدب، يحتفظ من كل واحد منهما بسمة، بناء على أن هذه الاحتمالات ينفي بعضها بعضاً انطلاقاً من القول المشهور: إذا وجد الاحتمال بطل الاستدلال، لكنه احتمال فاعل وليس نافياً، فهو لا ينفي الاحتمال وإنما يقطع يقينيته ما يجعله متصفاً بالصفة السابقة ويمنح النقد منزلة خاصة في الخطابات ليس الأدب، ولا العلم أي بصورة أخرى وجوداً مستقلاً خارج هذين الحقلين الكبيرين، إن هذا النوع من الخطاب يؤسس واقعاً فعلياً ونظرياً لما كان يسميه نقاد النصف الأول العرب بالجمع بين العلم والأدب في النقد، فهو يحافظ على العلمية والأدبية في آن.
لكن هذا ليس وحده هو الذي يعطي هذه التحليلات المختلفة القيمة، وإنما هناك ملمح آخر لا يقل عنه قيمة وهو منح بيت الشعر صلاحية عبور الأفهام، والتنقل بين الأزمان، بوصفه هو المركز الذي ينبغي أن ينطلق منه كل نقد ويعود إليه، وأن اختلاف الآراء فيه وتعاور الأفهام عليه لا يغير من حقيقته ولا ينزل من قيمته.
وهذا يجعل المشكل هنا مشكلاً بالمعنى العلمي أي بحاجة إلى بحث وحل، لأنه يبعث في نفوس المتلقين السؤال، والقلق عن معنى البيت، ويدعوهم إلى الجدل حوله والنقاش، والاختلاف، وليس من السر أن يقال إن هذا الاختلاف والجدل يدل على قيمة البيت وجودته. ولوكان ساقطاً مبتذلاً لما اختلفت فيه الآراء، ولما دونت حوله الصفحات، ولما وضعت -ربما- الشواهد تخالفه أو تؤيده.
لقد كانت الأبيات المشكلة، أو التي تسطر حولها المآخذ ظاهرة نقدية وشعرية في ذات الآن، إذ مكنت من ظهور مدارس نقدية وآراء مختلفة تتقارع حولها العقول، كما مكنت من تعزيز الشعرية القديمة بالتركيز على الأبيات التي تخرج عما تعارف عليه الشعراء القدماء أو ما سمي ب»عمود الشعر»، وتفتح المجال للقول بطرائق مختلفة جديدة، وتصنع لها جمهوراً خاصاً من خلال هذا الجدل والخلاف يتفق معها أو يقف ضدها ما يعمق مكانتها بالشعرية العربية.