أ.د.عبدالرزاق الصاعدي
وإذا كانَتِ النُّفُوسُ كِبارًا
تَعِبَتْ في مُرادِها الأجْسامُ
عرفتُ الأستاذ الدكتور أحمد بن سعيد قشاش الغامدي أوّل ما عرفتُهُ في جامعة الملك عبدالعزيز، في عام 1406هـ حين كنّا طالبين في مرحلة البكلوريوس بقسم اللغة العربية، رأيتُه يأتي مُبكّرًا إلى المحاضرات ويحجز مقعده في المقدّمة بهدوء وثبات، ولم تمض سنة على تعارفنا حتى غدا أقرب زملائي إلى نفسي، وربما عجّل بذلك أنّ فينا طبائعَ ووشائجَ مشتركة، ثم شاءت الأقدار أنْ نتّجه بعد تخرّجنا إلى الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ونلتحق بالدراسات العليا في كلية اللغة العربية، فاتصلتِ الصحبةُ وتوطّدت، وكنا نسكن متجاورين في عمارة واحدة مدّة سبع سنوات.. ثم انتقل الدكتور أحمد بعد حصوله على درجة أستاذ مشارك إلى جامعة الباحة، فرع بلجرشي، وكان انتقاله خسارة كبيرة لي على الصعيد الشخصي ولقسم اللغويّات بالجامعة الإسلامية.
ومن النادر أن ترى مثيلاً للدكتور أحمد في الجدّيّة والحزم والانضباط في شتّى أموره، فهو جادٌّ حتى إن الجدّ ليستحيي منه، وهو ذكي ومنظم وصبور، يتصرّف بعفويّة محبّبة إلى النفوس، فتراه أبعد الناس من التكلّف، وأبعدهم من الغرور، وأقربهم إلى لطف التعامل وسهولته، وكان من أكثرنا طموحًا ورغبة في استثمار الوقت وتحصيل العلم. ومما تختزنه ذاكرتي أنه حين أنهى رسالة الدكتوراه ودفع بها إلى المناقشة سنة 1417هـ استشارني في شأن فكرةٍ بحثيةٍ لم أتوقّع سماعها منه، وهي فكرة هذا المشروع الميداني الذي بين أيدينا، كانت الفكرة تلحّ عليه، فيتهيّب ويُحجم ثم يُقدم، حتى غلب الإقدامُ الإحجام، قال لي: أريد كتابة بحثٍ في النبات، ليس كما ألفنا من الأبحاث الشائعة التي تعتمد على النقل من المصادر ولا تكاد تضيف شيئًا سوى التصنيف والمناقشة الباردة، إنما أريد أن أصنع بحثًا ميدانيًّا أذهب من أجله إلى منابت النبات في بيئته في السهول والأودية وشَعَف الجبال في منطقة السراة والحجاز، للوقوف على ما فيه من نبات والتعرف على أنواعه عن كثب، ورصد أطواره في النموّ والإزهار والإثمار، وتحقيق أسمائه واستقصاء معارف الناس فيه، وتصحيح ما وقع في المصادر القديمة من أوهام وأخطاء في وصفه، مع اعتماد التصوير لمراحل نمو النبتة؛ إذ تغني الصورة عن كثير من الوصف. فقلت له: هذا أمرٌ دونه خرط القتاد، ومطلب لا يقدر عليه الأفراد، وهو مشروع مؤسّسات وجامعات، وأحسبك لن تفعل! ولكنه فَعَلَ ورَكِبَ الصعب بإصرار عجيب، وكان يخبرني فيما بعد بقصص من رحلاته الميدانية في السراة وجبال الحجاز ومنها جبل ورقان العظيم وجبل قدس (أدقس) في ديار حرب، وجبل رضوى في ديار جهينة، ويخبرني بقصص من رحلاته إلى جبال السَّراة بين الطائف واليمن، ومنها جبل حزنة وجبل شدا الأعلى وشدا الأسفل وجبل فيفا وجبال القهر وجبال الريث، ثم جبال اليمن وعمان وجزيرة سوقطرة، ويخبرني ببعض ما واجه فيها من المشقّة ووحشة الأسفار والانكشاف للأخطار، فظهر لي منذ وقت مبكر من انطلاق مشروعه أنه يبذل جهدًا كبيرًا لم يألفه الباحثون الأكاديميون الذين تعوّدوا على البحث المكتبي المريح وتقليب صفحات المصادر ومحرّكات البحث تحت أزيز المكيفات. لقد صنع الدكتور أحمد لبلاده ولأُمّته معجمًا نباتيًّا خالدًا، تعجز عن عمل مثله المؤسّسات والجامعات، فكان هذا المعجم الذي بين أيدينا أو هذه الموسوعة ثمرة لذلك العمل الميدانالدّؤوب الذي أكل من عمره نحو ثلاثة عقود، تدرّب فيها على ركوب الصعب وتوطين نفسه على مرارة الصبر، فربما انتظر حولا كاملا لتصوير نبتةٍ واحدة من نباتاته التي تجاوزن 700 نبتة، ومدة الأزهار لبعض النباتات قصيرة جدا تحكمها ظروف المناخ، فقد يترقّب ويتحفّز ثم يفاجأ بعد طول الانتظار أنّ النبتة التي شدّ إليها الرحال في بيئتها لم تزهر، لشحّ المطر، أو لتأخّر نزوله عن موعده، فليس له إلا أن ينتظر إلى العام القادم، ويتربّص من جديد لموعد الإزهار القصير.
لقد أدرك الأستاذ الدكتور أحمد بحسّه اللغوي وفطنته البحثية النقصَ الظاهر في المعجم النباتي في بلادنا والتقصيرَ في وصفه عند علمائنا الأوائل في المعاجم الكبيرة، كالعين والجمهرة والتهذيب والمقاييس والمحكم والعباب واللسان والتاج، ومعاجم المعاني والموضوعات كالغريب المصنّف لأبي عبيد القاسم بن سلام والتلخيص لأبي هلال العسكري والمخصص لابن سيده، وكذلك في المعاجم المتخصّصة التي وصلت إلينا، كمعجم النبات لأبي حنيفة الدينوري (282هـ) وأدرك -أيضًا- أنّ من واجب الباحثين الأكاديميين المعاصرين الذين أتيحت لهم وسائل حديثة لم تتح للمتقدّمين أن يستعينوا بأدواتهم البحثية المتاحة ويستدركوا الفائت في النبات ويوظفوا الصورة، وهي أخطر العناصر المساعدة في هذا النوع من الأبحاث، فينقلوا القارئ من حيّز الخبر والوصف إلى المعاينة، وليس الخبر كالعيان، فاحتشد باحثنا لهذا الأمر الخطير متسلّحًا بأدواته وعزمه وإصراره وصبره وطموحه ليصنع شيئًا مختلفًا في معاجم النبات، فكانت الثمرةُ معجمًا نفيسًا يملأ العين ويُبهج النفس، وحين تنظر فيه وتقرأ بتمعّن وترصد الجانب اللغوي فيه تحسب أنك تقرأ للغوي من الرعيل الأول، ثم حين تعيد النظر وترصد وصفه لأحوال النبات ومراحل نموه تدرك أنك تقرأ لعالم من علماء النبات المعاصرين المتخصّصين فيه ولا تقرأ لباحث لغوي فحسب.
فما الذي يوصف به هذا المعجم الفريد؟ وما الذي ينطوي عليه؟ وما الجديد في طبعته الثانية؟ إنه في كلمات وجيزة: معجم لغوي نباتي يُعرّف بنحو (700) مادّة نباتية من نباتات جبال السراة والحجاز، ويحتوي على أكثر من (6000) صورة ملوّنة عالية الوضوح، مأخوذة جميعها بعدسة المؤلف، ترصُد النباتَ في مراحله المختلفة، مع التركيز على النظام الزهري والثمري لكلّ نبتةٍ، لتتميز عن مثيلاتها من فصائل أخرى، ويُعرِّف -أيضًا- بالنباتات التي وردت في مصادر لغوية معزوّة إلى جبال السراة والحجاز، ومنها الأنواع النادرة أو المهدّدة بالانقراض، ويشمل ذلك التعريفَ بأسمائها وأنواعها وصفاتها، مع إبراز منافعها الاقتصادية والعلاجية، ويذكر مسائل لغويّة وطرائف أدبيّة متعلّقة بالنبتة، ويذكر اللغات واللهجات الواردة في ألفاظ النبات، ويكشف عمّا حدث لها من تطوّر في الدلالة أو انزياح في الأصوات أو البنية، ويذكر مع كلّ نبات اسمه اللاتيني لتعمّ الفائدة، ويسهم في تعريب ألفاظه التي تُدرَّس في كثير من كليات الطب والعلوم والصيدلة في البلاد العربية بلغات أجنبية. وامتازت هذه الطبعة -مع ما فيها من زيادات كثيرة- بالعناية بالنباتات التي وردت عرضًا في الطبعة الأولى، فجعلها الباحث تحت عنوانات مستقلّة وصُور وشروحات وافية، وذيّلَ المعجم بملحق تضمّن خرائطَ لجبال السراة والحجاز، يتّضع منها مواقع كثير من الأسماء الجغرافية التي وردت ضمن المادّة النباتية، ثم ذيّله بفهارس شاملة بالعربية واللاتينية تُسهّل الإفادة من محتواه، ومع هذا الجهد الكبير الشاقّ في جمع المادة وتصوير النبات وصَفِّ المحتوى تولّى الباحث التنسيق والإخراج بنفسه، وقد عرفته حسن الذوق حريصًا دقيقًا، فجاء هذا المعجم في صورة بهيّة كما شاء له مؤلفه.
- (يتبع)