ربما يذكر الأعزاء أني كنت كتبت مذكرة ونشرتها في حسابي في تويتر ذكرت فيها تجربتي مع كتاب «الاستشراق» لإدوارد سعيد. وذكرت في تلك المذكرة أني ترجمتُه وحاولت الحصول من الناشر الأجنبي على إذن بنشر ترجمتي لكني أُبلغت بأن حقوق الكتاب مِلك لأسرة الدكتور سعيد وأنه يلزمني الاتصال بهم لذلك الغرض.
وتلقيت في أحد الأيام بعد ذلك اتصالاً من الأستاذ الدكتور محمد شاهين، أستاذ الأدب الإنجليزي بالجامعة الأردنية في عمّان، يدعوني إلى الكتابة في مجلة يشرف عليها، وعرض في أثناء الكلام ذكرُ إدوارد سعيد، وأخبرني الدكتور شاهين بأنه كان على علاقة صداقة معه ومع أسرته. كما أخبرني بأن حقوق ملكية كتب إدوارد سعيد آلت إلى أسرته بعد وفاته عام 2003م.
فذكرت للدكتور شاهين أني تَرجمت الكتاب، ورجوت مساعدته بالتوسط لدى أسرة البروفسور إدوارد سعيد للحصول على إذن بنشر ترجمتي فرحب بذلك ووعدني بأنه سيتصل بهم.
ولما استبطأت منه الجواب كتبت إليه أسأله عما استجد في الأمر فأخبرني بأن السيدة مريم سعيد أصرت على أن تترجم الكتاب لجنةٌ من أربعة مترجمين موثوقين. فكتبت للسيدة مريم سعيد عن مشروعي وبأني أرغب في الاتفاق معها على شراء حقوق الترجمة. ولم أتلق جوابًا منها. ثم كتبت لابنة الدكتور إبراهيم لغد الذي أهدى سعيد الكتاب إليه ورجوتها أن تسعى عند السيدة مريم سعيد لتسهيل نشر ترجمتي، فأجابتني بأن السيدة مريم سعيد اتفقت مع دار الآداب اللبنانية على تكوين لجنة لترجمة الكتاب ونشر الترجمة.
ومضت سنوات ولم تُنشر الترجمة، ولم يعلن عن أسماء اللجنة التي يقال إنها تولتها. وكنت أسأل الأستاذة رنا إدريس حين حضرتْ لعدد من معارض الكتاب في الرياض عما حدث للترجمة فتجيبني أحيانًا بوجود خلافات بين المترجمِين أو بأن السيدة مريم سعيد ليست راضية عن مستوى الترجمة.
وعلمت قبل أكثر من سنة أن الترجمة في طريقها إلى النشر، لكني لم أعرف من هو المترجم. ثم بدأت الصحف الأردنية في نشر خبر الترجمة مبيِّنة أن المترجم هو المترجم الأردني المعروف الدكتور محمد عصفور.
وقد حصلتُ قبل أسبوعين على هذه الترجمة الرابعة الأخيرة!
والسؤال الآن: ماذا عن هذه الترجمة الأخيرة؟!
وأول ما يلفت النظر فيها أن الأستاذ الدكتور محمد شاهين (نفسه) كتب مقدمة في 9 صفحات (5- 13) ولم يتطرق فيها إلى الترجمات الثلاث السابقة. بل لم يتكلم عن هذه الترجمة نفسها بتفصيل يبين، مثلاً، الحاجة إليها أو ما تتفرد به عن الترجمات السابقة. وبدلاً من ذلك، راح يتكلم عن كتاب «الاستشراق» وعن علاقته هو به وعن علاقته بإدوارد سعيد ولقائه به ولقائه بأحد الصحفيين الغربيين المهتمين بالكتاب. كما تحدث عن موضوع الاستشراق نفسه.
ووُصفتْ ترجمةُ الدكتور محمد عصفور هذه، في صفحة معلومات النشر في الكتاب، بأنها «الطبعة الأولى عام 2022». ويمكن أن يعد هذا لادعاء مبالغةً في تجاهل الترجمات السابقة، وربما أوحى لمن لا يعرف تاريخ الترجمات السابقة بأن الكتاب لم يترجم إلى اللغة العربية من قبل! ويقابل هذا التجاهلَ الكامل للترجمات السابقة أن الدكتور محمد عصفور يذكر ترجمة كمال أبو ديب (هامش ص 513) ويشير إلى بعض المصطلحات العربية التي أشار إليها إدوارد سعيد في كلامه عن ترجمة أبو ديب!
والطريف أن إدوارد سعيد وُصف في صفحة المعلومات بأنه «مفكّر فلسطيني»! ذلك مع أن الدكتور محمد عصفور يقول في هامش (ص 46): «كثيرًا ما يتحدث سعيد بصفته أميركيًّا»! فإذا كان إدوارد سعيد يتكلم بصفته أمريكيًّا (والخلاف في رسم الكلمة مقصود!) فكيف يجيز المترجم والمقدم ودار النشر الادعاء بأنه «فلسطيني»، سواء أكان مفكرًا أم لا؟!
يضاف إلى ذلك أن إدوارد سعيد لا يحب ألقاب الفخفخة مثل «مفكر» و»مثقف».
كما أن إدوارد سعيد لم يتكلم في (ص 46) بصفته «أميركيًّا»، بل كان يتهكم بالساسة الأمريكان ومغامراتهم «في اليابان وكوريا والهند الصينية»!
وأبعد من ذلك أن إدوارد سعيد في سيرة حياته «خارج المكان» يؤكد على تشتت انتمائه بين فلسطين ومصر والولايات المتحدة الأمريكية وهو ما يسبب له فقد الهوية الواحدة.
بالمناسبة: لا أظن أن ترجمة عنوان سيرة إدوارد سعيد out of place بـ«خارج المكان» موحية، بل ربما ركيكة. ويبدو لي أن أقرب ترجمة موحية لذلك العنوان هي: «المُقْتَلَع»، أو إذا أحببنا مفردات ما بعد الحداثيين: «المُتَشَظِّي». ولا يبعد عن ذلك أن يترجم بـ«القَلِق»! ذلك إن أخذنا وصف المتنبي لنفسه الذي ربما يتوافق إلى حد كبير مع حياة إدوارد سعيد حين يقول:
فما حاولتُ في أرض مقامًا
ولا أَزمعتُ عن أرض زوالا
على قلق كأن الريح تحتي
أوجِّهها جنوباً أو شمالاً
وأبعد من ذلك أن وصف إدوارد سعيد بأنه «مفكر فلسطيني» ربما يصور نزعة «الاستحواذ» عند الدكتور محمد شاهين! ذلك أنَّ «حشْر» إدوارد سعيد في الهوية الفلسطينية إنما يعني تجريده من هوياته المتعددة الأخرى التي جعلت من إدوارد سعيد إدوارد سعيدًا. كما تتبين نزعة الاستحواذ هذه في المقدمة التي كتبها الدكتور شاهين للترجمة، إذ جعلها تدور عليه شخصية رئيسية معنيَّة بكتاب الاستشراق وتاريخه وترجمته. وأكثر من ذلك دلالة على استحواذ الدكتور شاهين أنه يشكر في نهاية مقدمته الأستاذةَ «... سوسن عصفور التي بذلت جهدًا كبيرًا في مراجعة هذا الكتاب»! والمعهود أن مؤلف الكتاب أو مترجمه هو الذي يشكر الذين بذلوا جهدًا ما في إخراج الكتاب. لكن الدكتور شاهين ربما يشعر بأن هذا الكتاب كتابه هو!
ومما كتبه الدكتور شاهين في مقدمته لهذه الترجمة أنه كان يتحدث مع إدوارد سعيد عن «ترجمة الاستشراق» فعلَّق «إدوارد» بالقول: لا بد في يوم من الأيام أن يحظى الاستشراق بترجمة ميسَّرة تختزل الكثيرَ من الصعوبات التي يمكن أن يواجهها القارئُ العربيّ» (ص7). [والتوكيد من عندي].
وأشار إلى أن أمر ترجمة الكتاب كان يؤرق السيدة مريم سعيد، أرملة الدكتور إدوارد سعيد، ورنا إدريس مديرة دار الآداب ومالكة حقوق ترجمة كتب إدوارد سعيد إلى العربية. ويقول في نهاية كلامه: و»انتهى الأمر بتوفير هذه الترجمة ...، وهي في اعتقادي خيرُ ما يمكن توفيرُه من ترجمةٍ لــ الاستشراق بالعربيَّة». [والتأكيد من عندي].
أما كلامه المختصر عن هذه الترجمة فيقول فيه إن من «حسن الطالع أن يقع الاستشراق في نهاية المطاف في يد محمد عصفور، الأكاديميّ والناقد والشاعر والمترجم الذي وظَّف مكوِّنات هذه المهام في إنجاز مهمَّة الترجمة. وقد شهدتُ بنفسي مدى المعاناة التي كان على الصديق محمد عصفور أن يمرَّ بها أثناء تعامله مع نصّ يستعصي على الفهم المباشر، ويتطلَّب الرجوعَ إلى مصادرَ لا حصرَ لها من المعارف ومتابعة تقاطعها من أجل الوصول إلى بنيةٍ معقَّدةٍ لأطروحة تفضي إلى توصيل معرفةٍ معيَّنةٍ لواقعٍ نعيش فيه». [والتأكيد من عندي].
وبعد أن يستعرض بعض ما في «الاستشراق» عن قضايا سياسية معاصرة بين الغرب والعالم العربي، يختم بالقول: «ربَّما لهذا السبب وغيره جرى الإعدادُ لإصدار ترجمةٍ جديدةٍ لــ الاستشراق تزيد من فرص التواصل لدى القارئ العربي بعمل يثري موقع الهويَّة العربيَّة على خارطة العالم». [والتأكيد من عندي].
ولم يلتفت الدكتور شاهين إلى أن إدوارد سعيد شدد النكير في «ملحق» كتابه على الذين قرأوه على أنه «دفاع» عن العرب والمسلمين أو عن القضايا العربية. فكيف يريد الدكتور شاهين أن تكون الترجمة تعزيزًا لــ»الهوية العربية؟!
والواقع أن مقدمة الدكتور شاهين لا يمكن وصفها إلا بأنها «تطفُّل» على «ترجمة» الدكتور محمد عصفور، فهو لم يتحدث عنها بقدر ما تحدث عن نفسه هو. وقد أسهمت هذه المقدمة المسهبة في إخفاء شخصية المترجم الذي لم يكتب عن ترجمته إلا أسطر قليلة لا تفيد شيئًا (ص 15).
وسوف أبيَّن أن ما قاله الدكتور شاهين عن هذه الترجمة ليس دقيقًا.
جاءت الترجمة في 534 صفحة من القطع الكبير. ويمكن الإشارة إلى الملاحظات التالية التي تبين قصور الترجمة هذه:
1- وأول ملاحظة شكلية عليها أن الترجمة تخلو من مسرد يبين أسماء الأعلام الكثيرين الذين أورد إدوارد سعيد أسماءهم. كما تخلو من مسرد للمصطلحات ومسرد للأماكن التي وردت في الكتاب. ويجعل هذا النقص الكتاب غير مفيد للباحثين خاصة ولعموم القراء كذلك. ذلك أنك لو أردت أن تقرأ ما قاله سعيد عن أي شخصية أو مكان أو مصطلح فسيضطرك ذلك إلى أن تقرأ الكتاب كله من أوله إلى آخره لتجد ما تريد، أو أن تنشئ أنت مسارد لهذه الأغراض.
2- علَّق الدكتور محمد عصفور في مواضع كثيرة في الحواشي على بعض ما ورد في الكتاب لكن القارئ لا يعرف إن كان تعليق ما من صنع المؤلف أم من صنع المترجم. والمشهور بين المترجمين أن يميز المترجم تعليقاته من تعليقات المؤلف بأن يختم تعليقاته هو بكلمة «المترجم».
3- لا يذكر الدكتور محمد عصفور الترجمات العربية لبعض المراجع التي أوردها سعيد، بل يترجم عناوينها أحيانًا وكأنها لم تترجم، وهي كثيرة. ومنها مثلاً:
- ص 26: لم يذكر الترجمة العربية لكتاب إدوارد سعيد الذي يضم سيرته الذاتية. وهو الذي ترجمه إلى العربية بعنوان «خارج المكان»، فؤاد طرابلسي، بيروت: دار الآداب، 2000م
- ص 48: ترجم عنوانَي كتابين لفوكو كالتالي: «اضبط وعاقب»، و» علم آثار المعرفة».
وعنوان الكتاب الأول بالإنجليزية، كما أورده إدوارد سعيد: Discipline and Punish
وترجمه إلى العربية علي مقلِّد، وراجعه وقدَّم له مطيع صفدي، بعنوان «المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن» بيروت: لبنان، مركز الإنماء القومي، 1990م .
والكتاب الثاني هو كتاب فوكو المشهور:
Knowledge and the Discourse on Language, trans. A. M. Sheridan Smith and Rupert Sawyer (New York: Pantheon Books, 1972).
ترجمه سالم يفوت بعنوان: حفريات المعرفة، بيروت، الرباط: المركز العربي الثقافي (ط2) 1987م.
([وأخطأ إدوارد سعيد في ذكر المترجم، وهو ما يوحي بأن الكتاب ترجمه إلى الإنجليزية مترجمان اثنان. وتشير نسختي من ترجمة كتاب فوكو إلى الإنجليزية إلى أن مترجمه هو شيريدان سميث، فقط، أما سويير فقد تَرجم عن الفرنسية محاضرةً ألقاها فوكو في الكوليج دي فرانس وأُلحقت في آخر الكتاب. كما أورد سعيد اسم سويير خطأ، أما الصحيح فهو Swyer. والكتب والبحوث بالإنجليزية التي تشير إلا الكتاب لا تذكر إلا شيريدان سميث مترجمًا).
- ص 67: وردت إشارة إلى كتاب المستشرق الألماني يوهان فوك:
Johann W. Fück, Die Arabischen Studien in Europa bis in den Anfang des 20. Jahrhunderts (Leipzig: Otto Harrassowitz, 1955)
ولم يترجم اسم الكتاب ولم يَذكر أنه مترجم ولم يعرِّف بفوك.
وقد ترجم عمر لطفي العالم هذا الكتاب بعنوان: «الدراسات العربية والإسلامية في أوروبا حتى بداية القرن العشرين، بنغازي، ليبيا: (الطبعة الثانية) 2001.
ويوهان فك أحد كبار المستشرقين الألمان. ومن أهم كتبه «تاريخ القرآن»، ترجمه إلى العربية د. جورج تامر وآخرون، منشورات دار الجمل، 2008م، وكتاب «العربية» الذي تتبع فيه التطورات التاريخية في اللغة العربية منذ صدر الإسلام إلى العصر الحديث، وترجمه إلى العربية الدكتور عبد الحليم النجار في سنة 1951م، ثم نشره د. رمضان عبد التواب في 1981م مدعيًا أنه ترجمه (انظر حمزة المزيني، مراجعات لسانية، الرياض: كتاب الرياض (79)، ص ص 15-43 [المترجم].
- ص 119: لم يذكر ترجمة كتاب باشلار إلى العربية:
Gaston Bachelard, The Poetics of Space, trans. Maria Jolas (New York: Orion Press, 1964).
وقد ترجمه إلى العربية غالب هلسا بعنوان «جماليات المكان»، بيروت» المؤسسة الجامعية للطباعة والنشر، 1984م. فكيف لا يعرف، وهو المتخصص في الأدب، أن الكتاب مترجم منذ سنوات وأنَّ مترجمه هو مواطنه الأردني الدكتور غالب هلسا؟
- ص75: وردت إشارة إلى أحد كتب فوكو وترجمه بعنوان «نظام الأشياء». وأسقط من المتن رقم الهامش الذي يشير إليه، والكتاب هو:
The Order of Things: An Archaeology of the Human Sciences, 1990
وهو مترجم إلى العربية بعنوان: «الكلمات والأشياء». ترجمة مطاع صفدي وسالم يفوت وعز الدين عردوكي وجورج أبو صالح وكمال اسطفان. بيروت: مركز الإنماء العربي، 1989 - 1990م.
- ص 515 لم يشر إلى أن إدوارد سعيد «الثقافة والإمبريالية» ترجمه إلى العربية كمال أبو ديب، بيروت: دار الآداب، 2014م.
وغير ذلك كثير.
والإشارة إلى الترجمات العربية للكتب التي ذكرها إدوارد سعيد لازمة؛ وهي مفيدة من جوانب عدة:
فأولها أن الإشارة إليها بعناوينها المترجمة تُعفي المترجم من معاناة ترجمة عناوينها من جديد بعناوين ربما تختلف عن العناوين التي تُرجمتْ بها من قبل. وثانيًا أن من حق المترجمين الذين أنجزوا تلك الترجمات أن يُعتَرف لهم بجهودهم. وثالثًا أن القارئ العربي الذي لا يجيد اللغات الأصلية التي كتبت بها تلك الكتب سيُحرم، إن لم تذكر الترجمات، من الاطلاع على المواضع التي أشار إليها إدوارد سعيد في أصول تلك الكتب.
4 - أن الدكتور محمد عصفور ينقل أحيانًا الأخطاء التي وردت في أصل كتاب الاستشراق كما هي في الترجمة. ويدل هذا على ثقة المترجم الزائدة بصحة ما ورد في أصل كتاب الاستشراق. وبهذا فهو يترجم تلك الأخطاء ويوحي لقارئ الترجمة بأنها صحيحة. ومن أمثلة هذه الأخطاء:
أ - ذكرت آنفًا خطأ إدوارد سعيد في اسم مترجم محاضرة فوكو الملحقة بكتاب فوكو «حفريات المعرفة»؛ إذ أورد اسمه الأخير على أنه Sawyer مع أن الصحيح هو Swyer. والمؤكد أن هذا خطأ بسيط يمكن أن يرتكبه أيّ أحد. والخطأ الثاني في إشارة إدوارد سعيد هذه أنه أشرك سويير في ترجمة كتاب فوكو هذا؛ وهو ما يخالف الإشارة إلى هذا الكتاب في البحوث والكتب الأخرى التي اطلعت عليها باللغة الإنجليزية.
ولا يمكن أن يُعفى المترجم من مثل هذين الخطأين؛ إذ لا بد له أن يتحرى إن كان ثَمَّ خطأ في النص الذي يترجمه مهما كان ذلك الخطأ بسيطًا.
ب - والمثال الثاني للثقة بنقل إدوارد سعيد للنصوص التي ينقلها خطأ ثم يترجمها الدكتور محمد عصفور خطأ ما وقع في المقطع الذي أورده إدوارد سعيد (ص226) من قصيدة الشاعر البريطاني كبلنج التي عنوانها:
A Song of the White Men
«أنشودةُ الرجالِ البيض».
فقد أورد إدوارد سعيد النص كالتالي:
Now, this is the road that the White Men tread
When they go to clean a land—
Iron underfoot a nd the vine overhead
And the deep on either hand.
We have trod that road—and a wet and windy road—
Our chosen star for guide.
Oh, well for the world when the White Men tread
Their highway side by side!
وترجم الدكتور محمد عصفور (ص 357) الشطر الثالث في هذا المقطع كالتالي:
«الحديد تحت أقدامهم، والكرمة فوق رؤوسهم»
وهو الشطر الذي وردت فيه كلمة vineومعناها المعجمي: «الكَرْم»، وهي شجرة العنب.
والمشكل هنا أن كلمة vine «شجرة العنب» لا يتناسب ورودها الذي يوحي بالخمر والحياة الهانئة التي تظللها شجرة العنب (!) مع جو الطريق الموحش الذي يسلكه هؤلاء «البيض الأبطال»!
ومن هنا فلا بد أن ورود هذه الكلمة نشاز في هذا الشطر. لذلك خطر لي أنه ربما يكون هناك خطأ في نقل إدوارد سعيد لهذه الكلمة. لذلك رجعت إلى ديوان كبلنج نفسه لأتأكد من صحة الكلمة. وما وجدتُه أن الكلمة في الديوان levin، لا vine!
وهي كلمة تَذكر المعاجم الإنجليزية أنها تعود إلى اللغة الإنجليزية الوسيطة، ومعناها «البرق وقصف الرعود». ومن هنا فالرواية الصحيحة لهذا الشطر هي:
Iron underfoot and levin overhead
وبهذا التصحيح يصير المعنى واضحًا ومتماشيًا مع جو الأنشودة، وربما أُترجِمه ترجمة تقريبية كالتالي:
«السفن تُقِلُّهم والبروقُ والرعود تُظِلُّهم».
وينبغي القول إن الدكتور كمال أبو ديب والدكتور محمد عناني وقعا في الخطأ نفسه؛ إذ ترجم أبو ديب الكلمة بـ»الدوالي»! التي تعني شجرة العنب في لهجة أهل الشام..
وترجم الشطر بتمامه كالتالي:
«الحديد تحت الأقدام والدوالي فوق الرؤوس»
وترجمه عناني بـ»الكَرْمة»؛ وترجم الشطر بتمامه تبعًا لذلك كالتالي:
«إن الحديد تحت أقدامهم، وكَرْمةُ الأعناب من فوقهم»
ومحصلة القول أن الدكتور محمد عصفور لم يرجع إلى الأصول التي استخدمها إدوارد سعيد، كما وعدنا الدكتور محمد شاهين في مقدمته الطنانة!
5 - ومن الأمثلة الأخرى التي تدل على عدم عناية الدكتور محمد عصفور باستقصاء أصول النصوص التي يترجمها، ترجمته للنص التالي الذي ورد عند إدوارد سعيد (ص 37) من مقال للسياسي البريطاني المعروف لورد كرومر. يقول النص:
Even the Central African savage may eventually learn to chant a hymn in honour of Astraea Redux, as represented by the British official who denies him gin but give him justice.
ويترجم الدكتور محمد عصفور هذه العبارة (93) كالتالي:
«حتى المتوحِّشُ في أفريقيا الوسطى قد يتعلَّم في نهاية المطاف أن يُنشدَ ترنيمةً على شرف العدالة التي يمثِّلها المسؤول البريطاني الذي يحرمه مشروبَ الجن ويعطيه العدالة».
لكن من يقرأ هذه الترجمة سوف يستغرب من هذه «القسوة» الاستعمارية التي تحرم الإفريقي «المتوحش» من «مشروب الجن»!
والسؤال الأول هل كان «الإفريقيُّ المتوحش» يعرف في الفترة التي كان يتكلم عنها كرومر «مشروبَ الجن» الذي يمثل أحد أشهر أنواع الخمور عند الغربيين؟! والسؤال الثاني: هل يعقل أن تَبلغ «الرأفة» الاستعمارية بـ»الإفريقي المتوحش» أن «يحميه» من شرب الخمر، سواء أكان «جنًّا» أو أيّ شيطان آخر؟!
ولا بد لمن يُقرأ هذا النص أن يقرأه في ضوء ما هو معروف من أن الاستعمار الغربي هو من أشاع شرب الخمور في كل مكان وصل إليه. وربما يكون المستعمِر أسعد ما يَكون لو ظل «الإفريقي المتوحش» سكرانَ أمد الدهر!
والسؤال الآن هل ترجمة الدكتور محمد عصفور لهذه العبارة ممكنة؟
أما أنا فلم أقتنع، حين قرأت هذه الترجمة بأن المسؤول البريطاني يمكن أن يكون بهذا المستوى من «الرأفة» بهذا «الإفريقي» المتوحش»، أو ربما من هذه «القسوة» عليه! وخطر لي أن «مَنْع المسؤول البريطاني الإفريقي المتوحش من شرب الخمر» ليست الترجمة الصحيحة. ويوجب هذا البحث عن معنى آخر لكلمة gin التي وردت في العبارة.
لهذا فزِعت إلى معاجم اللغة الإنجليزية الموسّعة مرة أخرى ومنها معجم «وبستر» Webster New Twentieth century Dictionary: Unabridged
وما وجدتُه فيه أن معنى كلمة gin، كما وردت في سياق النص الذي أورده إدوارد سعيد، لا علاقة له بالحرمان من الخمر من أي نوع!
إذ يقول المعجم إنها جاءت من الكلمة gin, ginne في الإنجليزية الوسيطة بمعنى ingenuity «براءة، سذاجة»، أو contrivance «ماهر، خلاق»، أو حتى «سلاح»، بل حتى «استقلال».
ومن هنا فالمعنى الصحيح لكلمة gin في هذا النص يشير إلى ما كان يتمتع به «الإفريقي» من حرية وحياة بسيطة طبيعية، وإلى مقاومته للمستعمر. ويتبين من هذا أن ما «مَنَع» المستعمرُ «الإفريقي المتوحش» من التمتع به إنما هو حياته التقليدية التي كان يعيشها، وأسلحته البدائية التي كان يدافع بها المستعمِر، واستقلاله عن أي قوة خارجية. وذلك ما عوَّضه المستعرُ عنه، بالعدالة، فيما يَزعم!
وتشير عبارة Astraea Redux إلى القصيدة التي نظمها الشاعر الإنجليزي جون درايدن عام 1660م ترحيبًا بعودة الملك تشارلز الثاني إلى عرشه. وتتضمن اعتذار الشاعر عن قصيدة سابقة نظمها تأبينًا لأوليفر كرومويل قائد الثورة التي أسقطت الحكم الملكي.
أما ترجمتي الأولية لهذا النص فهي:
«بل ربما يتعلَّم حتى الإفريقي الهمجي في إفريقيا الوسطى في نهاية الأمر [الولاءَ للحكومة البريطانية] وسوف يتغنى بأنشودة «عودة (ربَّة) العدالة إلى الأرض» Astraea Redux، كما يمثِّل [تلك العدالة] المسؤولُ البريطاني الذي سلبَ [هذا الإفريقيّ] حريتَه لكنه منحه العدل».
6- أما إذا أردنا نموذجًا منغلقًا و»مضحكًا» من ترجمة الدكتور محمد عصفور فهو ترجمته (ص 301) لنص نقله إدوارد سعيد من مقال كتبه الكاتب الفرنسي المشهور بالكتابة عن الرحلات، ميشيل بوتور، ووصفه بأنه نص جميل. تقول ترجمة الدكتور عصفور:
«تبقى رحلة شاتوبريان في نظر نرفال رحلةً على السَّطح، أما رحلته هو فمحسوبة، تستخدم مراكز مدنٍ والتفاتاتٍ تحيط بالمراكز الأساسيَّة. وهذا يمكِّنه من اجتناب جميع الأبعاد التي تحتويها المصيدة، عن طريق تغيير زاوية النظر. ففي أثناء التجوُّل في شوارع القاهرة، أو بيروت، أو إسطنبول يكون نرفال بانتظار أيّ شيءٍ يمكّنه من الإحساس بوجود كهفٍ يمتدُّ تحت روما، أو أثينا، أو القدس [وهذه هي المدن الرئيسية في مسار شاتوبريان]...
ومثلما أنَّ مدن شاتوبريان الثلاث تبقى على اتِّصال - روما بأباطرتها ورؤساء كنيستها وهم يعيدون ترتيب التراث، أي تركة كلٍّ من أثينا والقدس - فإن كهوف نرفال... تبقى على اتصال جنسي»!!
وأنا أتحدى أن يفهم أحد ماذا تعنيه هذه الترجمة!
وعلى رغم وصف إدوارد سعيد ما كتبه بوتور هنا بأنه «تعبير جميل» فهو مكتوب بلغة النقَّاد «الحداثيين» الذين يخلقون شيئًا مبهرجًا من لا شيء!
وأنا لا ألوم الدكتور محمد عصفور على «ورطته» في ترجمة هذا النص. بل ألومه على أنه لم يرجع إلى مقال ميشيل بوتور الذي أخذ إدوارد سعيد النص منه. ولو رجع لتبينت له الخطوط العامة على الأقل لمعني هذا النص.
وقد رجعتُ إلى مقال بوتور الذي أخذ إدوارد سعيد النص منه، وهو مقال مترجم إلى الإنجليزية عن الفرنسية. ويتكلم بوتور عن تصنيف الرحلات عمومًا. وتكلم عن الصنف الأول منها وهو صنف أفقي الاتجاه، بمعنى أنها تسير على مستوى الأرض. أما الصنف الثاني فهو الرحلات «الرأسية»؛ وهي نوعان: الرحلة إلى الأعلى والرحلة إلى أسفل. وهو يقول عن ذلك (وهذه ترجمتي الركيكية!):
الرحلة إلى الأعلى: كأن تَصعد جبلاً (كما عند دانتي في Purgatorio)، أو أن تَصعد إلى الأعلى بواسطة بالون أو طائرة أو صاروخ؛ وتتصف هذه الرحلات بتزايد توسُّع الأفق أو [لنسمِّه تزايد توسُّع] نقطة القياس؛ [وفي هذه الحالة] نقيس نقطة الانطلاق من زاوية نقطة الوصول؛ إذ يُنجَز مسار القراءة بصورة طبيعية باكتشاف هذا التوجه الرأسي، وهو الذي لا بد أن يُنتهى منه ويقاس بـ[الاتجاه] المناظر [أي الاتجاه إلى ما تحت سطح الأرض]؛ أي الرحلة عن طريق النزول [إلى باطن الأرض] (كما عند دانتي في Inferno «الجحيم»، وفي صفحات كثيرة في كتاب هوجو Le Voyage au centre de la Terre «رحلة إلى باطن الأرض»)، التي يؤدي فيها انكماش الأفق مؤقتًا إلى فتح كهوف كبيرة للغاية تجعلنا نصعد إلى السطح على الجانب الآخر للأفق الطبيعي ونندد بهذا السطح بصفته كذبة. وهو نوع من الصعود المعكوس - والعاكس - حيث تحدد نقطةُ الوصول نقطةَ الانطلاق بجعلها تخضع لتغيير طبيعتها بإرغامها على أن تكون بمثابة افتتاحية [مقدمة] (وهذا هو سبب تخيُّل نقطة الوصول هذه في كثير من الأحيان على أنها «مركز»).
وبهذا التوصيف يصل إلى الكلام عن رحلة نيرفال. وهي رحلة تخيل فيها أنه يسبر أغوار الأرض ليكتشف الطرق الخفية التي تصل بين المدن التي تكلم عنها.
وإذا فهمتم شيئًا من هذا النص فبوتور يريد تصنيف رحلات نيرفال «المتخيَّلة» على أنها من الرحلات «الرأسية النزولية» أي التي تنزل إلى باطن الأرض بعكس رحلة شاتوبريان الأفقية التي تبقى على سطح الأرض.
أما ترجمتي الأولية التقريبية للنص «الحداثي» العويص الذي أورده إدوارد سعيد والذي ترجمه الدكتور عصفور بالصورة السابقة، فهي، إن فهمتُ النص حقَّ فهمه، كالتالي:
يَنظر نيرفال إلى رحلة شاتوبريان على أنها رحلةٌ لم تتجاوز ملاحظةَ الظاهر [ما فوق ظاهر الأرض، أي أنها لم تتعمق فيما وراء الظاهر كما هي رحلة نيرفال]، أما هو فقد خطط لرحلته بدقة واستفاد في تنفيذها من «مراكز انطلاق الرحلة ومراكز وصولها] ومن دهاليز المنعرجات التي تحيط بالمراكز الرئيسية كذلك؛ ومكَّنه ذلك كله من أن يدلل بجلاء، وبشكل تقابلي [بين المدن الثلاث التي اختارها والمدن الغربية الثلاث التقليدية]، على أمداء الاحتقار كلها التي تكنُّها المراكز المألوفة [الغربية ل مدنه الثلاث]. وكان نرفال، في تجواله في شوارع القاهرة وما حولها يتحرى دائمًا أن يَعثر على أي شيء يسمح له بأن يكتشف نفقًا [أي دليلاً عميقًا] يمتد تحت روما وأثينا والقدس [وهي المدن الرئيسية التي كتب عنها شاتوبريان في كتابهItineraire [إدوارد سعيد]]...
ومثلما أن مدن شاتوبريان الثلاث على تواصل دائم - حيث تعمل روما، بأباطرتها وبابواتها، على ترميم الآثار في أثينا والقدس وترعى «رسالتهما [الدينية]» - تنشغل ممرات نيرفال الأرضية بتقريب تلك المدن بعضها إلى بعض قليلاً كي تتواصل.
ولا يمكن أن يعفى إدوار سعيد من اللوم لأنه لم يورد بقية النص التي تبين طبيعة «التواصل» بين المدن الست. ومما زاد الأمر سوءًا أن الترجمة الإنجليزية استعملت كلمة intercourse التي تدل في أحد معانيها على «العملية الجنسية»!
وهذا ما أوقع الدكتور عصفور، والدكتور أبو ديب من قبله، في هذه الورطة الترجمانية!
أما لو أورد سعيد النص كاملاً، أو لو رجع الدكتور محمد عصفور إلى مقال بوتور، لتبين له أن الأمر بعيد جدًّا عن «الاتصال الجنسي»!
** **
أ. د. حمزة بن قبلان المزيني