معاني الثقافة متعددة ولا يمكن القطع بواحد منها، نظراً لسعة المجالات التي تعنى بها الثقافة وتدخل ضمن حيزها، بيد أن من الممكن تقسيم الثقافة إلى فروع، تتوزع بين مجالات شتى تعنى بها الثقافة. فالمجال السوسيولوجي مثلاً يصنِّف الثقافة بحسب حيويتها إلى متحركة ومتطورة ونامية ومتغيرة ومتراكمة وهي تنتقل جيلاً بعد جيل، وكل جيل يرث ثقافياً ما جاءه ممن سبقه. والمجال الإنثربولوجي يصنِّف الثقافة إلى ثقافة عليا رسمية محفوظة ومؤرشفة وثقافة شعبية دنيا غير مدونة أو مؤرشفة لكن المفارقة هي أن هذه الأخيرة أكثر فاعلية وعمقاً وتأثيراً في النظام الحياتي العام من الثقافة الأولى. والسر يكمن في سعة تمثيلاتها المجتمعية المتناقلة كصيغ مادية أو غير مادية.
وما يعنينا هنا هي الصيغ غير المادية التي تتخطى الطبقات الاجتماعية وتخترق المتعلمين والأميين وتكون في شكل أمثال وأغانٍ وعادات وطقوس موروثة وشعائر وفلكلور يعنى بدراستها الإنثروبولوجيون والسوسيولوجيون.
وتعد العادات الاجتماعية أكثر صيغ الثقافة غير المادية أهمية وأشدها عمومية لطبيعتها الثابتة نسبياً كراسب من رواسب المجتمع، تؤثر في حياة الناس العملية واليومية ويكتسبها الفرد ويمارسها كنزوع شخصي اجتماعي سماع بيار بورديو بالهابيتوس.
ويعد الطعام واحداً من العادات الاجتماعية المؤثرة في حياة الإنسان، وقد حظيت ببعض الاهتمام من لدن الإنثروبولوجيين، فدرس ليفي شتراوس الطعام من وجهة نظر بنيوية وتأثر بعض الإنثروبولوجيين الاجتماعيين بدوركايم ورادكليف براون. وقدّم لفيتاس عام 1983 مسحاً للإسهامات الإنثروبولوجية في دراسة الطعام والعلاقة بين نظام الغذاء والتغذية والثقافة.
وحصل تطور على يد الإنثروبولوجيين الأمريكيين ومنهم مالينوفسكي ونظريته الوظيفية في الثقافة فدرسوا وظيفة الطعام والممارسات المتصلة به وآثار تلك الممارسات على نفسية الجماعة وثقافتها من ناحية طرائق تحضير الطعام وكيفية صنعه وتقديمه وتناوله.
وإذ تعد دراسة ماري دوجلاس 1970 وجودي 1982 فتحاً جديداً في أوروبا في مجال دراسة الطعام إنثربولوجياً، فإن دراسة بلقيس شرارة لإنثربولوجيا الطعام تعد فتحاً جديداً على مستوى العالم العربي في كتابها( الطباخ ودوره في حياة الإنسان) الصادر بطبعته الأولى عن دار المدى للثقافة والنشر عام 2012 وأهمية الكتاب تأتي من اهتمامه بهذا الفرع المغمور من الثقافة الشعبية مركزاً على عادات الطعام الاجتماعية وتطورها عبر العصور التاريخية. وقد تتبعتها المؤلفة في خمسة عشر فصلاً وبسبع مئة صفحة ونيف مع مقدمة ضافية وطويلة كتبها المعماري رفعة الجادرجي وفيها تحدث عن دور العادات والممارسات في ابتكار ثقافات مستجدة تطور الذات وتنمي طرائق جديدة في الأكل والطهي.
وتبدأ المؤلفة كتابها بالبحث عن اللحظة التي فيها اكتشف إنسان النيادرتال النار وسيطر عليها ليكون أول طباخ في تاريخ البشرية وسمي الحيوان الطباخ. ولما كان الطبخ يحتاج إلى وقت كي يكتمل، لذا مكثت المرأة بقربه بينما راح الرجل يصيد الحيوانات في الغابة ليعود إلى المكان نفسه ومنذ ذلك الوقت صار الطبخ سبباً في الارتباط بالمكان والولاء له وصار الرجل يعمل والمراة تخدمه بالطبخ وتربية الأولاد كعادة اجتماعية ظلت تتناقل عبر الأجيال ولكن حصل في هذه العادة تغيير مهم خلال العصر الحديث حين أصبحت المرأة تقوم بالعبئين معاً؛ عبء العمل وعبء الطبخ.
وكان لمعرفة الإنسان الزراعة دور مهم في نشوء الحضارة، ويعد وادي الرافدين مهد أول حضارة في تاريخ البشرية ومعها ظهر دور الطباخ من ناحية تقديم القرابين وطريقة ذبح الحيوان الأضحية وكانت لديه قدور وأفران وقوالب يصنع فيها الخبز كما كانت هناك حوانيت للطباخين. وورد في وثائق لكش ذكر للطباخ كحرفي يعلّم غيره من الطهاة ويراقبهم ويعاقب غير المتقنين منهم. وكانت عند الطباخين أوصاف لطبخ الجبن ولحم الغزال وعمل العجينة واستعمال الملح والتوابل في تجفيف السمك. ويعد السومريون أول من عرف صنع النبيذ في حدود 5000 عام بعد أن وجدوا أن تنقيع بذور الحبوب يجعلها تنبت ويصبح ممكناً أكلها ومصدراً مهماً في التخمير الذي عُهد أمره إلى النساء. وفي مسلة حمورابي ذكر لعاملات النبيذ. وفي أور في حدود 2000 ق. م كانت هناك طقوس خاصة في تناول أنواع معينة من الطعام مما جعل السومريين (مدركين أن مطبخهم أرقى من مطبخ الصحراء الغربية بإيران إذ اعتبروهم بدواً لا يعرفون ما هي الحياة المتحضرة يأكلون طعامهم بلا طبخ) الكتاب، ص84
وارتبط ظهور الطباخ في مصر بطبخ السمك والخنزير وكان عمله شاقاً وهو يضع القدر في حفرة ويوزع النار في فرن إسطواني. وعرف المصريون صنع النبيذ واستعمال الزيت وتميز المطبخ المصري بأنواع الخبز. وتطور دور الطباخ عند الإغريق لارتباطه بالقرابين ولحاجة الجيش إليه مما أعطاه مقاماً عسكرياً ونشأت عادات في الطبخ والأكل، وكان للفلاسفة الأغريق موقف من الطبخ، فلم يتقبلوا الإفراط في الطعام ورفض سقراط الطبخ واعتبره مجرد وقود ونشاط تقوم به المرأة.
وكانت لمهنة الطبخ عند الرومان منزلة مرموقة وكانت لها آداب مائدة كما كان لهم موقف حازم من الإسراف في الطعام ونشأت عندهم أول أكاديمية للطبخ، وظهر أول شاعر طباخ هو اركستراتس وله قصائد في حب الطبخ. أما الحضارة الصينية فنظرت إلى الطباخ بازدراء وكان كونفشيوس قد ذكر في تعاليمه حول الاعتدال في أكل اللحم وطقوس تناول المعكرونة وآداب المائدة وشرب الشاي. ونظر العرب إلى الطباخ نظرة دونية وكانت مهنة الطبخ غير محترمة وكان للمرأة دور في الطبخ ولم يعرف العرب آداب المائدة إلا في العصرين الأموي والعباسي وكانت لهم وجبتان الغداء والعشاء ومن الكتب المؤلفة في الطبخ( كتاب الطبيخ) لابن سينار الوراق.
وصار الطبخ في العصر الفاطمي يعهد للجواري الطباخات وكذلك في الأندلس وأُلفت كتب في طرق الطبخ وصنع الحلوى. وصار المطبخ العربي مؤثراً في المطبخ الإيراني والمطبخ الإيطالي. أما مقاهي القهوة والشاي فعرفها العرب في القرن السابع عشر الميلادي.
وإذا تحددت عادات الطعام بحسب أهميتها وفاعلية تأثيرها الاجتماعي في الشعوب وجغرافيات المدن، فإن الذي حصل في القرن العشرين هو استعمال هذه العادات كسلاح في الحروب. وهو ما تناولته الباحثة بلقيس شرارة في فصل ( عصر العولمة) بكثير من التفصيل نظراً لارتباط الطعام بالسياسة ارتباطاً استراتيجياً له دوره في الهيمنة العسكرية.
ومما ذكرته في هذا الصدد وقائع تاريخية حصلت في حقبة ستالين من قبيل مجاعة أوكرانيا 1933 وكذلك الصين عام 1949 واستغرقت في توضيح دور التلفزيون في إشاعة عادات غذائية معينة وكيف صار لبعض المطاعم هيمنة وغدت إمبراطوريات مثل مطعم الآن دوكاس وماكدونالد. وبسبب انتشار الأطعمة السريعة وما نتج عنها من تأثير في النظام الاجتماعي في الولايات المتحدة الأمريكية نشأت في عام 1986 حركة الطعام البطيء slow food.
وفي القرن الواحد والعشرين تعولم الطعام وازداد تأثير السياسة فيه، ولعل ما جرى في العراق إبان الحصار الاقتصادي من 1990 الى 2003 يعد عينة ممتازة لتدليل على دور السياسة في تغيير عادات الطعام والتاثير في القيم والتقاليد ومنظومتها الاجتماعية العامة بيد أن المؤلفة لم تقف للأسف عند الحصار الذي ضرب قطاعات الشعب العراقي كافة كأكبر إبادة جماعية في تاريخ البشرية وببرنامج مجحف هو النفط مقابل الغذاء فشحت المواد الغذائية الأساسية وارتفعت أسعار الخبز وغابت كثير من الأصناف الغذائية التي عرفها المطبخ العراقي واستبدلت بغيرها وهو ما ولد من ثم تقاليد جديدة في اداب المائدة على مستوى الفرد والمجموع فشاعت سلوكيات الاحتكار والربا والاستغلال مما لم يكن يعرفها المجتمع العراقي قبل الحصار.
وبسبب الجوع والفقر المدقع الذي عم شرائح المجتمع العراقي بالكامل، ساءت منظومة القيم الاخلاقية وتفككت لحمة الأسرة العراقية ووحدة المجتمع، فهاجر الاف العراقيين المتمكنين ماديا الى بلدان بعيدة بينما تحمل ذوي الدخل المحدود العبء الاكبر فكانت النتيجة بشعة وتجسدت جلية في اثناء دخول القوات الامريكية العراق عام 2003.
وفي الحرب الدائرة الآن بين روسيا وأوكرانيا برزت مسألة الغذاء وتأثير مخاطرها على الأمن الغذائي العالمي. وتتبارى الدول في أصالة مطابخها ومحاولتها جعلها ملمحاً من ملامح هويتها القومية. ومسرح هذا التباري هو منظمة اليونسكو العالمية، والصراع على أشده في هذا الجانب بين الكيان الصهيوني وبين السكان الأصليين الفلسطينيين الذين يؤكدون أصالة بعض الأكلات من قبيل الفلافل مثلاً كإرث لهم عن أجدادهم.
هكذا يمكن للطبخ والطعام أن يلعب دوراً سياسياً فيؤدي إلى الانحطاط أو يقود إلى الارتقاء من خلال ما يترسخ من عادات الطعام وآداب المائدة وسلوكيات الأكل. ومن مجموعها تتشكل الثقافة الشعبية غير المادية فتكون ذات تأثير استراتيجي كأقوى سلاح في يد الأقطاب المهيمنة على النظام العالمي الجديد.
** **
- د. نادية هناوي