تركي بن رشود الشثري
في أحد الكتب القديمة والمعنون بـ «روح المكان» ذكر المؤلف أن للأماكن أرواحاً، ولا أنكر أن لي علاقة شفافة بأماكن زرتها في الطفولة، أو حلمت بها ورأيتها في الواقع أو امتزج فيها الخيال بالممكن، المهم أن هناك شعوراً متبادلاً بيننا أو بين أرواحنا وبين بعض الأماكن، وعليه فالزمان والذي هو قسيم المكان بالإمكان أن يكون له روح سواء في عصور سالفة نُقلت إلينا أخبارها كمملكة سبأ، ومُلك سليمان وتسخير الرياح والسير في الهواء رخاء حيث أراد، والصرح الممرد من قوارير، أو كأزمنة خاصة بنا امتزجت فيها رائحة الماء بالطين بحبوب الهال ودخان السمر.
يسارق كثير من الناس الزمان ويفرحون بقطعه سواء أنجزوا فيه ما يملأ أرواحهم بهجة وجلالاً، أم قطعوه في اللهو الكثير وإن كان لا بأس بذلك إلا أن المبالغة فيه تجعله قاتلاً لكل حياة ومنهكاً لكل طاقة، المهم هو أن يتسرب هذا الزمن من بين أيديهم إلى غير رجعة إنهم «ضجرون في زمن ضجر»، ولا يقيمون للسلام الداخلي أي وزن والذي لا يتم إلا باكتساب القوة وتصريفها بهدوء في منافذ الزمن المشعة على عوالم أخرى، إننا وفي رحلتنا في هذه الحياة لا نشبع من عمر واحد بل نتطلع بشغف أكيد لنيل أكثر من فرصة، وعيش أكثر من زمن، ولذلك نقرأ التاريخ، بل ونعيش في أجزاء معينة من التاريخ، ولكل منا جزائره العامرة بالحقيقة والخيال، بالقلاع والحصون، بالأنهار والجسور والأشجار الكبيرة الملتفة بعضها على بعض، والتي نرتادها فينة بعد أخرى لنبني فيها ونهدم ونصف كل ذلك بـ «الذاكرة»، ونراقب الحاضر بصمت لنستشف من بين أحداثها ماذا سيكون عليه الحال وإلى أين نحن سائرون وما الذي يخفيه المستقبل؟ إن أرواحاً كهذه لا يمكن بحال أن يملى عليها ما الطريقة المثلى لاستغلال الوقت، وما هو البرنامج الذي يُنظِّم لها أيامها وأسابيعها، بل هي صاحبة نظرة شمولية تلف الزمن بحضور واعٍ وعقل منفتح على مكامن القوة فتفعِّلها إلى أقصى ما يمكن لتمتلئ طمأنينة وسكوناً في لحظات التأمل والتقييم والمحاسبة الشفافة للنفس، إنها أرواحٌ منظمة بلا تنظيم ومرتبة بلا ترتيب، فقد غطَّت صورة الإطار الأكبر على كل التفاصيل، ولا يخفى أن لوضوح الرؤية وبروز الأهداف الكبرى والتوازن في مسائل تحديد الأهداف وتنظيم الأوقات أثراً بالغاً في تسيير هذه الاستراتيجية بصلابة ومرونة متوازيين، فهناك فرصة لتغيير الخطط الضمنية وتقديم عمل على آخر وشعور على آخر، وخطة ألف وباء وجيم في تناغم فاعل.
حساب الزمن
الزمن قطعة من اللامتناهي تهصر الأرواح وتعصر الأجساد لتقطر عصاراتها على كر السنين كسائل أصفر متغير، ولكن الذي يبدو على السطح أننا نخسر الكثير والكثير من طاقتنا الموزعة على مشارب عدة منها النفس والناس والأعمال وغيرها من الاحتكاكات والمتطلبات التي تستخلص منا العافية فبعضنا شمعة تحترق لتضيء غيرها وبعضنا شمعة تحترق وتحرق غيرها، والأحرى بالإنسان ككائن مكرم بالعقل والسواء المزاجي أن يكسر هذه الحلقة المفرغة والتي تلتهم أجساد الناس وأرواحهم بلا هوادة فيستبصر في نفسه وفي غيره وفي المعطيات التي بين يديه من بيئات وبشر ومقدرات فيسخرها لنموه ونمو من حوله ممن يتحمل مثل هذه الممارسة، ويُعْرِض عن من يأبى إلا العويل والشكوى والاعتذار والتبرير والرغبة الملحة في الضياع والخسار، كالذباب الذي يطن فوق النار ولا يزل يطن حتى تحرقه كقربان لسلطان الزمن في مشهد وثني فهم منه هذا المسكين أنها هي الحياة وهكذا يجب أن نقضيها، وعليه فالاهتمام بشأن الروح ورفع منسوب تألُّقِها، وتوزيع ذلك التوزيع العادل على حسب المهام والأيام يعطينا قدراً لا بأس به من الحضور والتفاعل القوي والإفادة الكبرى من الوقت، فالمحافظة على الرياضة كتوجه ذهني ثابت، والمحافظة على الصلة بالله كتوجه ذهني ثابت، والمحافظة على القراءة كتوجه ذهني ثابت، والمحافظة على اللباقة مع الناس كتوجه ذهني ثابت، والنزاهة والأمانة كقوانين تحكم سيرك الثابت تجعلك في حالة من «المتانة النفسية» والعطاء الذي لا ينضب، كحال القادة العظماء والناجحين الكبار، إذن الموضوع أكبر من تحديد الأهداف أو تنظيم الأوقات إنها دعوة لمراجعة بعض المسلمات في التنمية البشرية بأن تنضبط وفق قانون التوازن.
حساب الناس للزمن يختلف من شخص لآخر ومن بيئة لأخرى ومن جيل لجيل، ولكثرة الأحداث وضراوتها أثر في شعورنا بتسارع الزمن وإلا فاليوم أربع وعشرون ساعة بشكل ثابت، ولكن المتغير شيء يتصل بالأمزجة وشيء يتصل بروح الزمن فزمن النبي سليمان عليه السلام وغدو الريح المسخر له شهر ورواحها شهر ليس كشهورنا، وأيام الدجال التي بعضها كأسبوع وبعضها كشهر ليست كلها كأيامنا، ومضي الساعة آخر الزمان كاحتراق السعفة ليس كساعتنا، واليوم عند الله كألف سنة مما نعد، والرجل العجول يسابق الزمن ويعدو وهو يلهث ويردد أن الزمن قصير، والرجل الكسول يتمدد ببطء ويضجر من طول الزمن، فمن المؤهل للتعرف على روح الزمن ونحن نعيش في غاشية الشتات وعشوا العين وضعف البصائر فما هو زماننا وما هي روحه وكيف نعانقها؟
وعليه فنحن نؤكد على ضرورة الانغماس في الزمن الحالي والإحساس به واسترواح ظلاله والتقاط إشاراته والتمازج معه لتحقيق كينونة حاضرة لا ماضوية ولا مُطَارَدَة، فكثير من الناس يعشش في الذاكرة ودائماً لا ينتقي منها إلا المشروخ والمخدوش والمؤلم، وبعضهم لا يرى للزمن الحالي إلا أنه قنطرة لما هو قادم من لوحة دونكيشوتية «بطولات وهمية» رسمها في مخيلته ولم يدر بخلده أن كل الصيد في جوف الفرى وأن لزمنه الذي يعيشه في هذه الساعة روحاً، ومازال ولا يزال يتجاهلها أو لم يرها أصلاً لغبش بصيرته وضعف رؤيته، إنه يفكر في الرحيل لجزر نائية أو مدن فاضلة ولم يعلم بأن (واقعه هو، وهو واقعه)، وأينما ذهب سيرافقه مزاجه السيء أو الجيد، وعليه فمكوثه المركَّز في هذا الواقع وانغراسه في هذه البيئة بحمولتها التاريخية والمكانية والاجتماعية، واغتنام الطاقة المحدودة والزمن المحدود له في هذه الحياة سيعطيه الطمأنينة والتركيز والعمق، الإنسان هو المركز ليس بالمعنى الفلسفي وإنما بمعنى أنه محل الثروة، وعليه فالعناية به أولاً أهم من العناية بما هو خارج عنه، إنها دعوة لتنفس روح الزمان بقلب مستوعب ورئة نشطة وعينين مفتوحتين لأنك الإنسان ومن ثم فأنت المركز.
إذن لا تتعامل مع الزمن في سَيْرِكَ على الحبل المشدود على أنه كتلة صلدة، بل السر يكمن وراء ذلك إنه يكمن فيك أنت حيث كل الوقت معك وفي صفك إذا كنت هدفاً متحركاً فحيثما وصلت يصل هدفك معك.