غالب الذيابي
اجتمعت في شخصية الملك عبد العزيز طيب الله ثراه خصالٌ شتى وشمائلٌ حُسنَى. وما من منقبة محمودة حوتها معاجم اللغة إلا وله منها النصيب الأجزل. صقلت مواهبه وعمقت مداركه البيئتان اللتان لا ثالث لهما في بلادنا، بيئة الحاضرة والبادية وبرغم اختلاف النمط وفروقات الحياة بين بعضها البعض إلا أنه تشبث بالاثنتين، فكانت طباعه مزيجاً من هاتين الحالتين. الأمر الذي اجتذب به قبول الناس وقناعتهم. في هذا العنوان نتحدث عن صفاته في الميدان العسكري الذي لازمه لأكثر من ثلاثين عاماً. من خلال الحداء (وهو نشيد الحرب بشقيه الهجوم والدفاع) ومن خلال هذا اللون يتبين لنا أنه لين حازم، سريعاً متأنٍّ، واعياً متغافلاً عن الهين من عثرات جنده. لم يدخل ثكنة عسكرية ولم يتخرج من معهد. تحلى بصفاة القائد وأتقن منها الإيثار وامتلاك زمام المبادرة وتطبيق عنصر المفاجأة. فكيف أتقن هذه الصفات التي لا يعرفها بادٌ ولا حاضرٌ قط إلا بممارستها عملياً في قاعات التدريب!
قال رحمه الله حادياً بعد محاولته الأولى لاسترداد الرياض. مخاطباً الرياض وربما بلادنا بأكملها، وذلك سنة 1318هـ.
يا دارنا لا ترهبين
لابد ما نرجع عليك
أعطيك أنا العلم اليقين
لو ننتحي لازم نجيك
انظر إلى الثقة في البيت الأخير النابعة من اتقاد العزم وعقد النية التي لا يزعزعها فشل ولا يخامرها إحباط. إنه يبشر الرياض بيومٍ لا تكسف شمسه وليل لا يحجب الغيم بدره. وهو ما تحقق فعلاً في السنة التالية.
وفي إحدى المرات كان غادياً في غزوة وقد تزامنت غزوته في الشتاء القارس. وفي إحدى الليالي الشاتية استيقظ من نومه في هزيع الليل، وأخذ يوقظ الجند متنقلاً من مفرزة إلى أخرى وحينما أوشك الجميع على المسير وإذا بأحد الجنود لم يستيقظ بعد من نومه، وقد دفع به البرد لبناء عريش من أغصان الطلح وسقفه بشجيرات الرمث وألحفه قطعة من لحاف. فجادت قريحة الملك عبد العزيز على الفور بهذا الحداء وأخذ يؤديه بطريقة الإنشاد:
يا نايمِ تحت العريش
يا ناسفٍ فوقه ذرا
لا تحسب ان النوم عيش
العيش زيزومه سرا
فرد عليه أحد الجند مازحاً بقوله:
من هذا الذي لم يستيقظ يا طويل العمر.(اكيد هذا قلبه ميِّت)!
فأجابه المؤسس رحمه الله:
(ما هوب قلبه ميِّت وإن قاله الله ليسبقكم).
انظر لهذا الأسلوب الذي جمع التواضع والتشجيع في آنٍ واحد فكيف أتقنه وهو لم يدرَّس في كليات الحرب، ولم يتقنه إلا من تمرس وقرأ وطبق التاريخ العسكري وهو مالم يعرف عن الملك عبد العزيز، وهذا الأسلوب يعمد إليه القائد لبث الروح المعنوية بين الجند.
فالبيت الأخير من الحداء في شطره الأول كان ذماً للنوم وليس الجندي.! والشطر الأخير كان صميم المعنوية فهو يصور المقاتل الباحث عن العيش الكريم واغتنام الفرص الثمينة قد استيقظ وهمَّ بِالسُرا ولم يعد نائماً هذه الساعة.
ومن صفاته القيادية أيضاً تطبيق أسلوب الانسحاب وإعادة ترتيب الصفوف وهو الأسلوب الذي تعتمده اليوم جيوش العالم المتقدمة ففي المحاولة الأولى لاسترداد الأحساء أقدم المؤسس على تطبيق هذا الأسلوب الذي فاجأ قادة السرايا وربما عمت الدهشة جنوده أيضاً بسبب هذه الخطة الجديدة التي لم يعهدوها من قبل, فجميع الجند لم يعتَد إلا على أمرين فقط النصر أو الشهادة. لكن المؤسس رحمه الله كسر هذا المفهوم حفاظاً على جيشه فقال رحمه الله وهو ينفذ خطة الانسحاب مخاطباً (هجر) الاسم القديم للأحساء سنة 1330هـ.
يا هجر يا زين النبات
لا تحسب إنا هاربين
أن طول الله بالحياة
لابدنا لك راجعين
إنها أحدية الثقة وفلسفة الشجاعة. فعلاً لابدنا لك راجعين. أولويته الآن ليس الهجوم أولويته تكمن في المحافظة على الجند لأنه يعلم أن الإقدام بقوة وعتاد متواضع يعني الهزيمة وإذا حدثت من الصعب أن تبرح مخيلة جيشه. فأخذ يرحمه الله في حشد الرجال وشرح الهدف المشروع ووفر الإمداد ودبر توزيعه. مستفيداً من نقاط الضعف السابقة واضعاً لها أنجع الحلول. فما أن عاد إليها لاحقاً إلا والنصر حليفه. فتأمل معي يا من رعاك الله هذه الشخصية العظيمة وما حازته من صفات لا يتقنها إلا من عركته الأيام وبرته العواصف.
إنه لم يضع نصب عينيه الحكم فقط بل وضع مستقبل شعب تعدى الدخلاء على حقوقه وامتهنوا سيادة أرضه واستقلال قراره.
رحم الله الملك عبد العزيز وجعل جزاءه جناتٍ ذواتا أفنان.